مدينة تفتنك بإرثها الحضاري، وخريفها المشمس، وطرزها المعمارية الباذخة.

 

إنها معشوقة الشعراء والأدباء والفنانين.

تبدو هذه المدينة في الشتاء كأنها أسطورة تنشقُّ من الموج الصاخب وشفق الشمس. وهي في فصل الصيف نسمة حانية عطرة. وفي الخريف ضوء الشمس والسحب، أما في الربيع فهي تحرِّض الحياة على المزيد من الجمال. إنها الإسكندرية عاصمة مصر في تاريخها القديم، وعاصمتها الثانية في التاريخ المعاصر، وقصبة الديار المصرية كما كانت تُلقّب على مدى التاريخ.

 

معالم الإسكندرية

الإسكندرية لوحة فنية باذخة الجمال، تُسهم كلُّ التفاصيل في إبراز دلالتها، بدءًا من هذا المزج اللوني الساحر بين موج البحر الفيروزي، وزرقة السماء، وبياض النوارس المتواثبة في إغواء أبدي. على امتداد هذا الحفل اللوني المبهج تشمخ مبان تاريخية رصينة عدة، تحمل بين جنباتها أسرار التاريخ وشجنه، منها قلعة قايتباي، وقصر المتنزه، وقصر رأس التِّين، ومسجد الصحابي أبي الدرداء، رضي الله عنه، والمتحف اليوناني، وقصر المجوهرات الملكية، وغيرها. كما تتجاور المباني التي شيِّدت على فن العمارة الإيطالية والعمارة الإسلامية، فضلاً عن مكتبة الإسكندرية الجديدة التي تُعدُّ إحياءً لنظيرتها القديمة، والتي تشتمل على ما يزيد على مليوني كتاب، إضافة إلى المخطوطات والصحف والمجلات. ويُضاف إلى ذلك متحف الفنون في محرم بك.

 

 

يُعد جسر ستانلي أحد أشهر المعالم الحديثة التي يتميز بها حي ستانلي الراقي، فهو ينبسط بتصميمه الذي يشبه تصميم القصور الملكية، بين طرفي خليج ستانلي ويوفر إطلالة رائعة لقاصديه على صفحة المياه الفيروزية التي يزهو بها البحر الأبيض المتوسط.

 

جولة على الكورنيش

يمارس سكان المدينة وزوارها من السياح، وسط هذا كله، وعلى امتداد الكورنيش من رأس التين حتى أبي قير، طقوس محبتهم للمدينة الساحرة. فكل منهم ينعم بنصيبه من جمالها على الرغم مما قد يكون بينهم من تفاوت اجتماعي. فأحدهم يقضم الذرة المشوية، والآخر يأكل شطيرة من محال الوجبات السريعة، وآخرون يلتفون حول مائدة عامرة من صيد البحر، بينما يجلس على مقربة منهم من يكتفي بكأس شاي. يمتزج هؤلاء جميعًا مع غناء الموج والنوارس وشدو الباعة المنتشرين على امتداد الكورنيش. بينما يمسك أحدهم كتابًا اشتراه من بائعي الكتب بجوار الترام، أو من باعة الكتب القديمة بشارع النبي دانيال، هذا فضلاً عن الذين آثروا التنزه في عربات الحنطور، أو ركوب الطابق العلوي من الحافلة السياحية أو الترام لمشاهدة الإسكندرية من أعلى. أما السهرة فتكون في أوبرا سيد درويش، أو في مسرح محمد عبدالوهاب، أو في إحدى قاعات مكتبة الإسكندرية، حيث الأمسيات الشعرية والمؤتمرات العلمية ومختبر السرديات، أو في أحد قصور الثقافة للإبداع والفن، ومنها قصر ثقافة الحرية، وقصر ثقافة الشاطبي، والأنفوشي، ومصطفى كامل. وقد تكون السهرة في أحد الفنادق الضخمة بالإسكندرية، مثل شيراتون المنتزه، أو وندسور بالاس، أو سيسل، أو سان استيفانو، أو في أحد المقاهي العائلية التي تتيح لمتوسطي الدخل الجلوس وتناول المشروبات ومشاهدة البحر.

 

تُعد مكتبة الإسكندرية مجمعًا ثقافيًا ضخمًا تتلاقى فيه الفنون مع التاريخ والفلسفة والعلوم. تشتمل المكتبة على ما يزيد على مليوني كتاب ومخطوطة، وتضم عددًا من المعارض الفنية الدائمة لكبار الفنانين.

 

تشمخ قلعة قايتباي التاريخية بوصفها واحدة من أشهر معالم الإسكندرية التي أمر السلطان المملوكي قايتباي ببنائها على أطلال فنار الإسكندرية القديم لتشكل حصنًا منيعًا أمام الغزاة.

 

كما يتصالح هذا الخليط العجيب تحت سماء الإسكندرية، تتجاور المساجد ومباني القنصليات الأجنبية وغيرها، مؤكدة أبرز السمات الفارقة لهذه المدينة وأهلها، وهي عشق الحياة، وعمق التكوين، ورحابة الأفق. يعد تأمل تاريخ الإسكندرية، الذي هو جزء من تاريخ مصر، أمرًا يؤكد أن هذه السمات نتاج انصهار تاريخي.

 

 

في رحاب التاريخ

لم تكن الإسكندرية حتى الاحتلال الفارسي لمصر أوائل القرن الرابع قبل الميلاد، سوى قرية صغيرة من قرى الصيادين اسمها راقودة أو راكتوس، ولكنها عُدَّت موقعًا استراتيجيًّا لصد الهجمات عن وادي النيل. ولذلك، حين دخل الإسكندر الأكبر مصر بعد هزيمة الفرس، أُعجِب بها وقرر أن يبنيها ويمنحها اسمه لتكون مدينة وصل بين مصر واليونان. ومن ثم تحولت قرية راقودة إلى مدينة الإسكندرية، واتخذت سمتًا يونانيًا في عمارتها، وتخطيط شوارعها، وشُيِّدت بها مكتبة الإسكندرية، وهي أول معهد علمي بحثي في مجال التاريخ في العالم. كما شُيِّدت بها المنارة التي عُدِّت إحدى عجائب الدنيا السبع في العالم القديم، إذ بلغ ارتفاعها 120 مترًا. وُصفت الإسكندرية بأنها أبرز حواضر الفنون والثقافة والمعرفة في العالم وقتئذ.

 

عُدَّت منارة الإسكندرية إحدى عجائب الدنيا السبع في العالم القديم، إذ بلغ ارتفاعها 120 مترًا، وهي من أشهر المقاصد السياحية في المدينة.

 

 

حين أصبحت مصر ولاية رومانية سنة 30 قبل الميلاد، استمرت القيمة الاعتبارية للإسكندرية بوصفها أكبر مدينة في الإمبراطورية الرومانية بعد مدينة روما، ما دفع الرومان إلى تعهدها بالعمران والتجميل، كما اكتسبت قيمتها من اتصاف أهلها بالحراك العقلي والتنوير واتساع آفاق الرؤى.

أُنهِكت المدينة على يد الفرس والرومان الذين تبادلوا الاستيلاء عليها، ما ألحق بها الدمار والخراب. وحين جاء الفتح الإسلامي لمصر، اهتم عمرو بن العاص بالإسكندرية بوصفها قصبة الديار المصرية، وثاني أبرز مدن الإمبراطورية الرومانية.

وإذا كان الفتح الإسلامي قد أهدى إلى الإسكندرية سلام الروح، ويقين العقل، فإن اتخاذ عمرو بن العاص مدينة الفسطاط عاصمة له أثَّر في موقع الإسكندرية وقيمتها في إدارة الأحداث، ولكنها لقيت العناية على الصعيد الجمالي والتجاري، فظلَّت الميناء الرئيس، وأكبر المرافئ لمصر، ما منحها ازدهارًا تجاريًّا. كما ظفرت في هذا العهد بالازدهار العلمي، حيث أمَّها كثيرٌ من علماء الدين، ومنهم ابن خلدون، والإمام الشاطبي، والحافظ السلفي، وعلت فيها مآذن المساجد، وعلى رأسها مسجد أبي الدرداء، الذي شارك في فتح مصر، فضلاً عن مسجدها الشهير مسجد أبي العباس، ومسجد القائد إبراهيم.

 

تشمخ في المدينة مبان فخمة تحمل بين جنباتها أسرار التاريخ

 

حين استهدفت الحروب الصليبية مصر أذاقتها الخراب والقتل، لكن الحروب لا تترك آثارًا من الدماء فقط، بل تمنح المسلوب المزيد من الإصرار على الحياة واستعادة القوة. وهذا ما حدث في الإسكندرية، حيث أصرّت بعد الخراب على استعادة الحياة، فالتفَّت حول الحصون والقلاع التي خلفتها هذه الحروب، وحوَّلتها إلى مزارات أثرية، من ذلك قلعة قايتباي التي بناها السلطان المملوكي قايتباي حصنًا أمام الصليبيين على القاعدة الحجرية التي تبقّت من فنار الإسكندرية. وهكذا كان بناء القلعة على بقايا الفنار لقاءً من العجائب بين أزمنة وأعراق وأحداث لا رابط بينها.

على الرغم من أن الإسكندرية فقدت كثيرًا من أهميتها التجارية بعد اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح لتحوّل طريق التجارة إلى المحيط الأطلسي، إلا أنها شهدت على الرغم من ذلك صحوة اقتصادية بعد أن شُيِّدت بها منارة حديثة، وشُيِّد الميناء الغربي بوصفه الميناء الرئيس لمصر، وخُططت منطقة المنشية وغيرها، ما جعلها تبدو في صورة لا تقل في الجمال والحداثة والمدنية عن صورة المدن الأوروبية، فاجتذبت إليها قناصل الدول الأوروبية، وتجار بلاد الشام، والتقت فيها الأعراق والأموال من أقطار الأرض، وصارت قِبلة الباحثين عن الثراء والجمال والفخامة، والشغوفين بالمدن المكتنزة بأصوات التاريخ ووقع أقدامه.

حين بدأ العصر الحديث في مصر باحتلالها من بريطانيا، ثم معاناتها آثار الحرب العالمية الثانية، تعرَّضت الإسكندرية الخراب والدمار، حتى أفاقت مصر من ويلات الاحتلال البريطاني عام 1952 واستعادت عافية الجمال مرة أخرى.

 

آثار شاهدة

يبرز السمت العالمي للإسكندرية في هوية معالمها الأثرية، التي ينتسب كل منها إلى جنس مغاير وزمن مغاير، فالمسرح اليوناني أحد الآثار التي خلَّفتها الإمبراطورية الرومانية، ويقع في منطقة كوم الدّكة في وسط الإسكندرية. ويُعد عمود السواري من أشهر النُّصب التذكارية في مصر والعالم، ويبلغ طوله نحو 27 مترًا، ويرجع لعهد الإمبراطور دقلديانوس. ويُعد الميناء الشرقي من أقدم الموانئ على البحر الأبيض المتوسط، وقد بناه الإسكندر الأكبر ليربط بين بلاد العالم القديم والمدينة. وإلى جوار هذه المعالم تنتشر في الإسكندرية عدة مقابر أثرية يعود تاريخها إلى أزمنة مختلفة، يعد بعضها شاهدًا على تداخل الفنين الفرعوني والروماني، كما احتوى بعضها على كثير من آثار العهد البطلمي.

 

يُعد المسرح اليوناني في وسط الإسكندرية أحد الآثار التي خلّفتها الإمبراطورية الرومانية
 

 

يُعد المسرح الروماني في وسط الإسكندرية أحد الآثار التي خلفتها الإمبراطورية الرومانية. هذا المسرح، الذي جاء تصميمه على شكل حدوة حصان، يشكل أحد أهم المزارات السياحية وأبرزها في المدينة.

 

متاحف الإسكندرية

تحفظ متاحف الإسكندرية تاريخها وآثار أقدام الشعوب والأمم التي مرَّت بها أيضًا، ويأتي في مقدمة هذه المتاحف متحف الإسكندرية القومي، الذي يضم ما يقرب من 1٫800 قطعة أثرية، تعود إلى جميع المراحل التاريخية التي مرَّت بهذه المدينة. أما متحف الجواهر الملكية فيشتمل على جواهر الأسر الملكية التي حكمت مصر، وقد شُيِّد عام 1919 وفق الطراز الأوروبي، ويقع في منطقة زيزينيا.

 

القصور

تضم الإسكندرية عددًا من القصور الفخمة التي تعود إلى عهود مختلفة، وتحولت إلى قصور رئاسية ومتنزهات للجمهور، من أبرزها قصر المتنزه، وقصر رأس التين، وقصر الصفا، وقصر البارون منشا، وقصر أنطونيادس، وسراي الحقانية، وقصر السلاملك.

 

ينبسط قصر المنتزه الراقي كأحد رموز الفخامة النادرة في العالم، وتكمن روعته في موقعه الفريد فوق هضبة مرتفعة عند ساحل البحر الأبيض المتوسط تغلفها حدائق خضراء ترسم إبداعًا طبيعيًا باذخ الجمال.

 

لقد اغتسلت الأعراق المتباينة التي مرَّت بالإسكندرية بماء البحر، وانصهرت في معترك أحداثها، ومن هنا تميزت الشخصية السكندرية على صعيد مصر، بسمات لها انعكاساتها في الإبداع الأدبي والفني، وتبدو تفسيرًا لطابع الأدب والفن السكندري المحتفي بفرق الفولكلور الشعبي والفرق الفنية، كما تُفسِّر لنا هذه السمات أسرار إغراء الإسكندرية وجاذبيتها الأبدية لعشاق الحرية والجمال والرقي والتحضر.