"تأتي إلى هنا لتجد ما لم تتوقعه". هكذا يصف بابلو ديل فال، المدير الفني لمعرض آرت دبي هذا الحدث الذي لا يُفوّت، والذي يقدم أفضل ما تزخر به الساحة الفنية في المنطقة. ومع اختتام النسخة الثامنة عشرة من المعرض، يعود آرت دبي ليوثّق مكانته بوصفه إنجازًا مبهرًا ضمن المنظومة الثقافية للمنطقة.
يقول فال: "إنه وقت مثير في دبي. تقدم أقسامنا المنسقة للزوار تجربة لا تتكرر، في مدينة نابضة بالحياة." وهذا بالتحديد ما سعت أكثر من 120 صالة عرض، تمثل65 مدينة، إلى تحقيقه من خلال مشاركتها في المعرض.
ترى نور جرماني، مؤسسة صالة Belvedere Art Space، وهي صالة فنية معاصرة تأسست في بيروت وانتقلت أخيرًا إلى دبي، أن آرت دبي يُعد منصة قوية تعكس التأثير المتزايد للمدينة في المشهد الفني العالمي.
وفي هذا تقول: "ينمو آرت دبي عامًا بعد عام، وهذا العام أكثر من أي وقت مضى، ما يقرّب دبي خطوة إضافية من التحوّل إلى قوة عالمية في عالم الفن".
يتردد صدى مشاعر نور بقوة عبر أرجاء المعرض. حتى قبل التجوّل بين أقسامه المنسقة بعناية، يصعب تحويل الأنظار عن قطعة من التاريخ الحي لفن البوب: سيارة BMW M1 Art Car الأسطورية التي تحمل بصمة آندي وارهول، والمعروضة للمرة الأولى في الشرق الأوسط.
جرى طلاء السيارة في عام 1979 خلال 28 دقيقة فقط بلمسات وارهول الجريئة المميزة. بل إن هذه "اللوحة المتحركة" تُعد المركبة الوحيدة في العالم التي تحمل توقيعه، وواحدة من قلة من السيارات التي صُممت لتكون عملاً فنيًا قائمًا بذاته، إلى جانب كونها شاركت في السباقات.
Art Dubai
عرضت بي إم دبليو سيارة BMW M1 Art Car التي تحمل بصمة آندي وارهول.
أشكال جديدة للتعايش
في قسم "البوّابة" الذي نسقته ميريام فارادينيس، كان التركيز على مجموعة من الأعمال الفنية التي أُنتجت خلال العام السابق للمعرض أو خصوصًا له.
هنا قُدمت عشرة معارض فردية لفنانين من الجنوب العالمي، طرحوا مقارباتهم لابتكار أشكال جديدة للتعايش، سواء بين البشر أو مع كوكب الأرض.
Art Dubai
قدمت صالةBlueprint.12 أعمالاً للفنان الهندي كايموراي، منفذة باستخدام قماش الخادي التقليدي وصبغة النيلة الطبيعية.
زيّنت جناح صالة Art: Concept الباريسية مجموعة لافتة من ألواح الزجاج المذهبة التي أبدعتها الفنانة النيوزيلندية كايت نيوبي الشهيرة بأعمال نحت وتركيب تستخدم فيها مواد متنوعة، بما في ذلك الأغراض المهملة في الحياة اليومية.
وعلى مقربة من هذا الجناح، عرضت صالة سيتشي Secci الإيطالية أعمالاً متميزة للفنان اللبناني متعدد الوسائط عمر مسمار، الذي يسهم في إحياء فن الفسيفساء، مستلهمًا إرثه اللبناني.
Artist’s studio
مجموعة من ألواح الزجاج للفنانة النيوزيلندية كايت نيوبي في جناح صالة Art: Concept.
وكانت التحفة الأبرز عمله التركيبي Ahmed with the Sponge (أحمد والإسفنجة) المستند إلى فسيفساء بيزنطية اكتُشفت في غزة عام 2022 تحت شجرة زيتون. وقد استخدم في الفسيفساء أشكالاً حيوانية وبشرية لتسليط الضوء على تعقيدات الواقع الاجتماعي والسياسي في منطقة الشرق الأوسط.
وفي الجوار، أبهرت صالة Blueprint.12 الهندية، التي تتخذ من دلهي مقرًا لها، الزوّار بعرضها أعمالاً مذهلة للفنان الهندي كايموراي، منفذة باستخدام قماش الـخادي التقليدي وصبغة النيلة الطبيعية.
استلهم كايموراي أعماله من الفنون والطقوس والعمارة والموسيقى الكارناطيكية ليعكس الفلسفة الروحية في جنوب الهند Andamum Pindamum Ondre التي تعني "الكون الأكبر والكون الأصغر شيء واحد".
Art Dubai
فسيفساء بعنوان "أحمد والإسفنجة" أضاء عمر مسمار من خلالها على تعقيدات الواقع الاجتماعي والسياسي في المنطقة.
استكشاف السرديات والاحتفاء بالتنوع
في هذه الدورة من المعرض، أثرت قسم الفن الحديث، الذي أشرفت على تنسيقه ماغالي أريولا وندى شبّوت، مجموعة متنوعة من أعمال رواد الحداثة في المنطقة، في تأكيد على التزام آرت دبي بالبحث الفني التاريخي واستكشاف السرديات غير المتداولة.
هنا عرضت صالة أجيال آرت غاليري البيروتية أعمالاً مبهرة للفنان اللبناني الأمريكي نبيل قانصو، كلها تستحضر أسلوبه المميز في تقديم تجمعات بشرية ضخمة وقوية، تتجه إلى عالم ينهار بالكامل.
وجرى الحفاظ على المستوى نفسه من التمايز في جناح صالة داغ DAG الهندية، التي احتفت بإرث أحد أبرز الحداثيين الهنود، الفنان مقبول فدا حسين، من خلال معرض امتد ليغطي قرابة ستة عقود من المسيرة الإبداعية الغزيرة لحسين، متضمنًا عملاً ضخمًا ثنائي اللوحات من سلسلته المستوحاة من الأم تيريزا والتي صوّرها بساريها الأبيض التقليدي، لكنه ترك وجهها معتمًا، تكريمًا لروحها.
Art Dubai
عمل للفنان اللبناني الأمريكي نبيل قانصو يستحضر أسلوبه المميز في تقديم تجمعات بشرية ضخمة وقوية، تتجه إلى عالم ينهار بالكامل.
أما قسم الفن المعاصر، فأطل بمجموعة واسعة من الصالات التي تنشط في مختلف أنحاء العالم، مقدّمًا رؤى جديدة تسهم في ترسيخ ثقافة الاكتشاف الفني.
وللمرة الحادية عشرة، تألقت في آرت دبي صالة داستان Dastan، التي تتخذ مقرًا لها في كل من تورونتو وطهران، إذ استقطبت الأنظار عبر عرضها مجسمًا كبير الحجم صيغ من الألياف الزجاجية (بسعر 590 ألف درهم)، وحمل توقيع فنان ما بعد الحرب والفن المعاصر بويا أريانبور الذي استلهم فيه الجذور الفكرية العميقة للحرف الفارسية التقليدية ورمزيتها الثقافية.
كما رفعت الصالة من مستوى حضورها بتمثال برونزي للفنان برويز تانافولي، الذي يُحتفى به لربطه بين منحوتاته والشعر، والذي يشتهر بلقب "أبي النحت الإيراني الحديث".
كان عنصر الإبهار حاضرًا أيضًا في جناح صالة بيروتان Perrotin حيث تصدر المشهد عمل على القماش يزدان بزخارف من الأكريليك وأوراق الذهب والبلاتين، أبدعه الفنان الياباني المعاصر تاكاشي موراكامي.
Art Dubai
استخدم الفنان نبيل عناني جلد الماعز غير المعالج بوصفه قماشًا لسلسلة Exit into the Light.
استلهم موراكامي، الذي يُعد أحد أبرز الفنانين المعاصرين في عصرنا، عمله (بسعر 1.55 مليون درهم) من ثقافة الرسوم المتحركة والشخصيات الكرتونية، مقدّمًا لوحة دائرية تمزج بين الشخصيات الوحشية واللطيفة، في تجسيد مثالي لأسلوبه المميز.
وعلى بعد أروقة ملونة قليلة، لفت الأنظار عمل معدني صدئ يزدان بالخط العربي ويحمل اسم "الحق في الحرية والتعبير"، وقد أبدع هذا العمل الفنان المغربي مصطفى عكريم، المعروف بإسهاماته في إعادة تشكيل المشهد البصري للفنون المعاصرة في المغرب، والذي قدم دلالة جديدة على تنوع الممارسات الفنية في آرت دبي.
وفي ركن آخر من قسم الفن المعاصر، نالت صالة "زاوية" (إحدى أولى الصالات الفنية المستقلة الداعمة للفنانين الفلسطينيين) استحسانًا واسعًا لعرضها أعمال الفنان نبيل عناني، الذي استخدم جلد الماعز غير المعالج بوصفه قماشًا لسلسلة Exit into the Light (الخروج إلى الضوء)، مقدّمًا شخصيات رقيقة ترمز إلى حياة الريف الفلسطيني والارتباط العميق بالأرض.
وفي مشهد لا يقل إثارة، أبهرت صالة ميزوما Mizuma السنغافورية الزوار من خلال عمل ضخم بعنوان Quatre Chevaux (أربعة أحصنة) للفنان أمانو يوشيتاكا، نُفّذ باستخدام طلاء السيارات والأكريليك على ألواح الألمنيوم.
Art Dubai
عمل معدني صدئ يزدان بالخط العربي ويحمل اسم "الحق في الحرية والتعبير"، أبدعه الفنان المغربي مصطفى عكريم.
تقاطع الفن مع التكنولوجيا
في دورته الرابعة، استحوذ قسم آرت دبي ديجيتال، الذي نسقه غونزالو هيريرو ديليكادو، على الأضواء، بوصفه القسم الأحدث، وربما الأكثر إثارة للجدل في المعرض، مسلطًا الضوء على تقاطع الفن مع التكنولوجيا.
وقد عبّرت شافينا يوسف علي، رائدة الأعمال الثقافية، والباحثة في تاريخ الفن، والممارسة في مجال الابتكار الاجتماعي، ومؤسسة مبادرة رزق للفنون في أبوظبي، عن دعمها القوي لهذا القسم، إذ إنها ترى أن "الوسيط هو الرسالة"، وأن الفن الرقمي المعاصر يوسّع هذه القاعدة عبر أبعاد متعددة.
وفي حديث خاص إلى مجلة Robb Report العربية، قالت يوسف علي: "إن الفن الرقمي اليوم يتجاوز الشاشة. إنه يستجوب ماهية العمل الفني ذاته." واستنادًا إلى هذه الرؤية، رفع هذا القسم شعار "ما بعد السمو التكنولوجي"، ليجسد التزام المعرض باحتضان الابتكار الرقمي ضمن عالم الفنون.
Art Dubai
لوحة دائرية تمزج بين الشخصيات الوحشية واللطيفة، استلهم موراكامي تفاصيلها من ثقافة الرسوم المتحركة.
هنا قدّم الفنان الأمريكي "بريكفاست" Breakfast أعمالاً حركية تفاعلية استجابت لحركات المشاهدين، ما أثمر عن تجارب فنية مدمجة مع البيانات الحية.
وفي مكان آخر، عرض الفنان ماتيو مانديللي عملين لافتين: Cyber Carpets، وفيه دمج بين السجاد الفارسي العتيق والدوائر الإلكترونية المعاد تدويرها، وFioriture Sintetiche، الذي استخدم فيه إطارات رقمية تُظهر زهورًا تنبت من آنية مليئة بالتربة، مرسوم عليها، ليحكي قصة مستقبل كئيب.
وفي زاوية أخرى، عرضت منصة 10101.art نسخة أصلية من لوحة "دورا مار" Dora Maar لبيكاسو، وهي إحدى أيقونات فترته الفنية المفصلية، فاتحة الباب أمام فكرة الملكية المشتركة للأعمال المتحفية عبر تكنولوجيا التعاملات الرقمية التسلسلية "بلوكتشين".
وقد طُرحت حصص الملكية ابتداءً من 3700 درهم إماراتي، في خطوة تؤكد أن الفن الرقمي ليس ظاهرة عابرة، على ما تقول يوسف علي مضيفة: "إنه يشكل تحولًا جذريًا في علم المعرفة الخاص بصناعة الفن وتلقيه، ويضع نفسه في مركز إعادة تشكيل الثقافة البصرية في القرن الحادي والعشرين."
Cedric Ribeiro
قدّم الفنان الأمريكي "بريكفاست" أعمالاً حركية تفاعلية استجابت لحركات المشاهدين.
أرضيات مشتركة
استمرت الديناميات المتناغمة في المعرض من خلال معرض "أرضيات مشتركة " لمجموعة دبي كوليكشن، الذي نسقه طلاب جامعة زايد تحت إشراف شمساء القبيسي ومريم الزعابي وسارة السليماني، مستكشفين فيه موضوعات الانتماء والتجربة الإنسانية المشتركة.
وقد ضم المعرض أعمالاً تمتد من عام 1949 إلى عام 2024، بما في ذلك أعمال بتوقيع لمى قرقاش وخزيمة العائد، مسلطًا الضوء على تطور الحركة الفنية في المنطقة وتفاعلها مع السرديات العالمية.
Art Dubai
نسخة أصلية من لوحة Dora Maar لبيكاسو، فتحت الباب أمام فكرة الملكية المشتركة للأعمال المتحفية عبر تقنية بلوكتشين.
وفي جانب آخر من المعرض، قدمت الفنانة الكويتية اليمامة راشد شخصياتها السريالية المميزة عبر مشروع تعاون مع دار بياجيه التي تألق جناحها بأحدث الإصدارات ضمن مجموعة Sixtie. في جناح الدار، استعرضت راشد عملها Your Love Moves Around My Trapeze Sun (Will You Hold Our Glistening Light?) الذي يستكشف موضوعات الحضور والولادة والضوء فيما يتلقى روح إرث بياجيه ويحتفي بعصرها الذهبي الذي تميّز بالبذخ والاستكشاف الجريء للأشكال.
في المقابل، كشف الفنان الإماراتي محمد كاظم عن عمله التركيبي الرقمي الجديد Directions (Merging)، أو اتجاهات (تمازج)، الذي كُلف به من قبل شركة إدارة الثروات السويسرية جوليوس باير.
Cedric Ribeiro
عمل تركيبي رقمي بعنوان Directions (Merging) دمج فيه محمد كاظم بين الإحداثيات والرسوم المتحركة للأمواج.
في هذا المشروع، دمج كاظم الإحداثيات والرسوم المتحركة للأمواج متحديًا فكرة الحدود الثابتة، وداعيًا المشاهدين للتفكر في المشهد المتصل لدبي.
بالرغم من تنوع الوسائط، إلا أن النية الإبداعية بدت موحدة، وهو تقييم اتفق عليه كثيرون. وفي هذا تقول الفنانة عائشة سيث، التي تقيم بين غوا ودبي وتعمل من مرسمها Camraas Prive في دبي: "آرت دبي لم يعد مجرد معرض فني، بل بوابة غامرة لفهم نبض الفنون في الإمارات"، مضيفة بحماس: "لقد أتاح لنا التنوع في المواضيع والأماكن فرصة أعمق لفهم المنطقة والحوار العالمي الذي يشكل الفن المعاصر."