في بينالي العمارة في البندقية لعام 2025، الذي افتُتح في 10 مايو الفائت والمستمر حتى 23 نوفمبر، يؤكد العالم العربي حضوره في طليعة الخطاب المعماري العالمي، مقدّمًا رؤية تحوّلية للبيئة المبنية.
فتحت شعار "ذكاء.. طبيعي.. صناعي.. جماعي"، تجاوزت أجنحة كل من المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، والبحرين، وقطر، المغرب ومصر وغيرها من دول المنطقة القوالب التقليدية للعرض، لتتحوّل إلى بيانات معمارية جريئة.
تعيد هذه المعارض تعريف العمارة من خلال دمج الأفكار الثورية بمقاربات متجذرة في الذاكرة، والبيئة، والهوية، والإصلاح، استجابةً لعالم يتغير بوتيرة متسارعة.
وفيما يشدد القيّم كارلو راتّي على أن بينالي هذا العام ليس معرضًا فحسب، بل هو تجربة لتوحيد أصوات متعددة وأشكال متنوّعة من الذكاء، تتشكّل من خلال هذه المشاركات العربية رواية جديدة تعكس التحديات والطموحات الخاصة بالمنطق. فهذه ليست عمارة من أجل اليوم فحسب، بل عمارة من أجل مستقبل تحدّده المسائل المناخية الملحّة وظاهرة تفتّت الثقافة.
المملكة العربية السعودية
مدرسة أم سليم: نحو مفهوم معماري مترابط
يقدّم الجناح الوطني السعودي في بينالي البندقية للعمارة لعام 2025 مشروع "مدرسة أم سليم: نحو مفهوم معماري مترابط" الذي أشرفت على تنسيقه بياتريس ليانزا بمساعدة سارة المطلق.
ويعيد هذا المشروع، الذي تولّى تصميمه مكتب سين معماريون لنجود السديري وسارة العيسى، تأطير العمارة بوصفها وسيلة للتعلم الجماعي متجذّرة في السياق المحلي. فمن خلال مجموعة أعمال مختبر أم سليم، يوثّق المشروع العمارة النجدية في الرياض ويعيد التفكير فيها، محوّلاً مدرسة محلية إلى أرشيف حي ومحفّز لممارسات مكانية جديدة.
يدور الجناح حول طاولة منحوتة تُمثِّل خارطة لوسط مدينة الرياض ومساحة للالتقاء جرى تشكيلها باستخدام هيكل سقالة وطبقات من الأنسجة تحمل خرائط مطرّزة ورسومات متداخلة مع صور متحركة ومحتوى بصري ومكتوب.
Andrea Avezzù
أعاد المشروع تأطير العمارة بوصفها وسيلة للتعلم الجماعي متجذّرة في السياق المحلي.
وتشمل التكليفات الفنية الجديدة المعروضة عملاً تركيبيًا صوتيًا لمحمد الحمدان (حمدان) بعنوان "ترددات معمارية" (2025)، يجمع بين صخب مواقع الإنشاءات وأهازيج البناء التقليدية، ومشروع "تموينات الديرة" (2025) لمها الملوح التي تستقصي الطابع المحلي لحي أم سليم من خلال مشتريات البقالة، وسلسلة "الزمن الحاضر"(2023-2025) للمصوِّر الفوتوغرافي لوريان غينيتويو الذي يوثِّق مظاهر الحياة الحضرية في وسط الرياض.
كما تُعرض صور فوتوغرافية بعدسة منصور الصوفي لأرشفة مبانٍ من مرحلة الحداثة وما بعدها في العاصمة السعودية، بالإضافة إلى مجموعة مختارة من صور تاريخية وكتب أرشيفية ترصد تطور المدينة من الناحيتين العمرانية والمعمارية.
وفي ما يشبه امتدادًا فكريًا للجناح، يُقام برنامج عام بعنوان "بناء/تفكيك – العلاقات والمنهجيات التعليمية والممارسة المكانية" يضم حلقات نقاش، وورش عمل، وعروضًا أدائية، وذلك في سياق الدفع نحو مقاربات نقدية وتعزيز آفاق التعاون لرسم معالم قطاع التعليم والممارسات المنخرطة في شؤون المجتمع. فالمعرض والبرنامج يقترحان معًا تحوّلًا نحو العمارة بوصفها بنية تحتية اجتماعية، مرتبطة بالتعليم والمجتمع واستمرارية الثقافة.
وفي جوهر هذا التحوّل، تُصبح مدرسة أم سليم مكانًا ومقترحًا في آن: إنها إطار لممارسة معمارية تصغي، وتوثق، وتبني المعرفة من الداخل، مقدّمة نموذجًا نقديًا يحفّزه مفهوم الرعاية في عالم سريع التغيّر.
Andrea Avezzù
يدور الجناح حول طاولة منحوتة تُمثِّل خارطة لوسط مدينة الرياض، ويرصد تطور المدينة بالصور والمجسمات والأفلام والصوت.
الإمارات العربية المتحدة
على نار هادئة
ضمن الجناح الوطني لدولة الإمارات العربية المتحدة في بينالي البندقية للعمارة لعام 2025، يتمايز مشروع باسم "على نار هادئة" تطرح من خلالها المعمارية والقيّمة الإماراتية عزّة أبو علم قراءة ثورية هادئة لعمارة إنتاج الغذاء في البيئات الجافة.
بالاستناد إلى معارف الأجداد الزراعية، والأبحاث البيئية، والتجارب المعمارية، يقترح المعرض لغة مكانية جديدة للمرونة في عالم هش مناخيًا.
Andrea Avezzù
تطرح المعمارية والقيّمة الإماراتية عزّة أبو علم في مشروع "على نار هادئة" قراءة ثورية هادئة لعمارة إنتاج الغذاء في البيئات الجافة.
تُفكّك أنماط البيوت الزراعية إلى عناصر نموذجية تشمل الأرضية، والسقف، والجدار، والأدوات، والظلال، ويُعاد تجميعها بوصفها أجزاء منحوتة تدعو الزوار إلى التفاعل الحسي والتأمل النقدي.
فالطعام من منظور عزة أبو علم ليس غذاء فحسب، بل هو نظام ثقافي وبيئي ومعماري. ومن خلال هذه المقاربة، تبرز العمارة بوصفها وسيطًا بين ما يُورّث وما ينبغي أن يُنشأ، ليتحوّل بذلك معرض "على نار هادئة" إلى أرشيف ونموذج أولي في آن، وإلى ما يشبه حوارًا دائمًا بين الماضي والمستقبل، وبين المكان والممارسة.
إنه مشروع يدعم عمارة تتكيّف وتتعاون مع ما هو موجود أصلاً، متحديًا بذلك سرديات التقدّم السائدة، ومقترحًا بيانًا من أجل الرعاية، والوعي المناخي، والفاعلية الجماعية في تشكيل بيئة مبنية لها جذور محلية وصدى عالمي.
Andrea Avezzù
تُفكّك أنماط البيوت الزراعية إلى عناصر نموذجية تشمل الأرضية، والسقف، والجدار، والأدوات، والظلال، ويُعاد تجميعها بوصفها أجزاء منحوتة.
قطر
بيتي بيتك
تُسجّل قطر ظهورها الأول في بينالي البندقية للعمارة 2025 عبر جناح رائد في حدائق جيارديني، وهو أول إضافة دائمة إلى هذه الحدائق التاريخية منذ أكثر من ثلاثين عامًا.
يحمل الجناح اسم "بيتي بيتك" ويتحدى السرديات المعمارية التقليدية من خلال استكشاف العلاقة بين العمارة والضيافة والمسؤولية الاجتماعية، مستمدًا إلهامه من التراث الثقافي والمعماري لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وجنوب آسيا.
أما القلب النابض للجناح، فيتمثّل بمركز مجتمعي جديد من تصميم ياسمين لاري، أول مهندسة معمارية في باكستان، وأحد روّاد التصميم الإنساني.
بُني المركز – الذي يؤكد تصميمه على الاستدامة البيئية والعدالة الاجتماعية، والذي يجسّد انعكاسًا لمساعي لاري المستمرة في تمكين المجتمعات من خلال العمارة - من الخيزران وسعف النخيل باستخدام تقنيات منخفضة الكربون وبتكلفة زهيدة، مجسّدًا فلسفة لاري في "العمارة الاجتماعية الحافية" التي تعتمد على المواد المحلية والعمالة المجتمعية لبناء هياكل مقاومة للفيضانات والزلازل.
وفي معرض موازٍ في قصر فرانكيتي، تستكشف قطر كيف تُعبّر تقاليد الضيافة عن نفسها في العمارة المعاصرة من خلال أعمال أكثر من 20 مهندسًا ومعماريًا، من الرواد المعاصرين إلى الأسماء الحديثة، أمثال راج ريوال من الهند، ونيار علي دادا من باكستان، وعبد الواحد الوكيل من مصر، ومينيت دا سيلفا من سريلانكا، ومارينا تبسم ونبيل حق من بنغلاديش، واستوديو داز من إيران، وعبير صيقلي من الأردن، وسمية دباغ من السعودية.
ما بين المركز المجتمعي والمعرض، يحمل جناح "بيتي بيتك" دعوة لإعادة التفكير في العمارة من حيث كونها ممارسة اجتماعية تُسهم في التغيير المناخي والمجتمعي، وتعزز فكرة أن العمارة لا تصنع المباني فحسب، بل تستحدث بيئات تحتضن المجتمعات.
Andrea Avezzù
بُني المركز المجتمعي من الخيزران وسعف النخيل باستخدام تقنيات منخفضة الكربون وبتكلفة زهيدة بما يعكس المساعي لتمكين المجتمعات من خلال العمارة.
مملكة البحرين
موجة حرّ
فازت مملكة البحرين بجائزة الأسد الذهبي لأفضل مشاركة وطنية في المعرض الدولي التاسع عشر للعمارة – بينالي البندقية، وذلك عن جناحها المتميّز "موجة حر" الذي يتفاعل مع المناخ ويقارب التحدي العالمي المرتبط بالحر الشديد.
وقد أشادت لجنة التحكيم بالجناح لوضعه "مقترحات قابلة للتنفيذ في مواجهة ظروف الحر الشديد"، مؤكدة كيف أن العمارة اليوم لا بد أن تواجه التحديات المزدوجة للمرونة البيئية والاستدامة.
يتناول الجناح، الذي أشرف على تنسيقه أندريا فاراغونا وموّلته هيئة البحرين للثقافة والآثار، دور العمارة في تعزيز المسؤولية البيئية والعدالة الاجتماعية في مناخات تتسم بالقسوة المتزايدة.
نُفّذ التصميم الهندسي بوساطة ماريو مونوتي، فيما تولى ألكساندر بوزرين تطوير أنظمة المناخ، ودمج المشروع تقنيات التبريد التقليدية في البحرين، مثل أبراج الرياح والساحات المظللة، مع حلول هندسية معاصرة.
يتكوّن الهيكل المعماري للجناح من أرضية مرتفعة وسقف ممتد مدعوم بعمود مركزي، وقد صُمّم ليكون قابلاً للتوسع والتكيّف في البيئات الحضرية.
يوفر السقف المعلّق تبريدًا حراريًا للمنطقة الواقعة تحته، ما يجعله نموذجًا محتملاً لمساحات العمل الخارجية في المناطق الحارة والمجهِدة بدنيًا. وفيما استخدم التركيب الميكانيكي للتهوية خلال البينالي بسبب قيود الموقع، فإن المفهوم الكامل يتضمّن آبارًا حرارية ومداخن شمسية لتوليد مناخات دقيقة سلبية.
Andrea Avezzù
يقدم الجناح البحريني، الفائز بجائزة الأسد الذهبي، والذي يتفاعل مع المناخ، مقترحات قابلة للتنفيذ في مواجهة ظروف الحر الشديد.
المملكة المغربية
مادة النقوش المتعددة
في هذه الدورة من بينالي العمارة في البندقية 2025، تقدم المملكة المغربية جناحًا استكشافيًا رائدًا تحت عنوان "مادة النقوش المتعددة" Materiae Palimpsest، تتلاقى فيه الحِرف التقليدية والابتكارات التقنية الحديثة.
باستحضار كل ما يربط الإنسان المغربي بأرضه وتاريخه وهويته، نسّق الجناح المهندسان المعماريان المغربيان خليل مراد الغيلالي والمهدي بلياسمين في إطار يستكشف تقنية البناء الطيني التقليدية من خلال حوار متجدد بين حكمة الماضي وإمكانات المستقبل. فمن خلال إعادة تصور أساليب البناء الترابي القديمة في ضوء التكنولوجيا المعاصرة، يقارب الجناح التحديات البيئية والاجتماعية الملحّة، ويقدّم سياقًا لممارسات بناء أكثر استدامة ومرونة وقدرة على التكيّف.
Andrea Avezzù
يعيد الجناح المغربي تصور أساليب البناء الترابي القديمة في ضوء التكنولوجيا المعاصرة.
في قلب الجناح، يختبر الزوّار تجربة غامرة لاستكشاف البناء الترابي من خلال التفاعل الحسي مع المواد الطبيعية، واستكشاف جمالها واستدامتها وقدرتها على التكيّف.
وإذ تطرح رؤية الجناح تصورًا لمستقبل تُكيّف فيه التقنيات مع البيئات الحضرية، لضمان بقاء التراث المعماري المغربي ذا صلة بالعالم المتغير، تسلط المقاربة متعددة المقاييس الضوء على موضوعات نقل المعرفة، والاقتصاد الدائري، واستمرارية الثقافة التي شكّلت معالم العمارة المغربية على مدى قرون.
Andrea Avezzù
يختبر الزوّار تجربة غامرة لاستكشاف البناء الترابي من خلال التفاعل الحسي مع المواد الطبيعية، وتعرّف جمالها واستدامتها وقدرتها على التكيّف.
جمهورية مصر العربية
فلنُمسك بالسراب
تحت شعار "فلنُمسك بالسراب"، يستعرض جناح مصر في بينالي العمارة بالبندقية 2025 قراءة تأملية في الاستدامة، مستخدمًا الواحة المصرية بوصفها عدسة رمزية.
Andrea Avezzù
في قلب العمل التركيبي تبرز منصة معلّقة يتفاعل معها الزوار في لعبة تضيء على التوازن الحرج بين الموارد الطبيعية والتنمية.
فالجناح، الذي أشرف على تنسيقه صلاح الدين حسن ذكري وإبراهيم زكريا يونس وعماد فكري فؤاد، وموّلته وزارة الثقافة المصرية بالتعاون مع أكاديمية مصر في روما، يستكشف التوازن الدقيق بين الحفاظ على البيئة والتنمية، فيما يتعمق في العلاقة المعقدة بين الذكاء الطبيعي والمعرفة الجماعية والتكنولوجيا في سياق صياغة مستقبلنا البيئي.
في قلب العمل التركيبي تبرز منصة معلّقة يتفاعل معها الزوار في لعبة توازن مجازية. وباستخدام كتل صفراء ترمز إلى الحفظ، وكتل زرقاء رمادية ترمز إلى التنمية، يُطلب من المشاركين إيجاد حالة من التوازن.
Andrea Avezzù
يستخدم الجناح الواحة المصرية بوصفها عدسة رمزية للتعمق في العلاقة المعقدة بين الذكاء الطبيعي والمعرفة الجماعية والتكنولوجيا.
وقد صُممت هذه الكتل بأبعاد وأوزان مبنية على أرقام أولية، لإظهار الديناميكيات المعقدة للاستدامة والعواقب المترتبة على القرارات غير المتوازنة.
من خلال دعوة الزوار إلى المشاركة الجسدية في تحقيق هذا التوازن الحرج بين الموارد الطبيعية والتنمية، يمثّل الجناح استعارة قوية للصراع العالمي للحفاظ على التوازن البيئي، ويشجّع على التأمل في دور العمارة والتصميم في مواجهة التحديات البيئية الملحة.