لم تكن مجرّد ضربة حظ، بل لحظة استثنائية أعادت الحياة إلى توقيع فني منسي من القرن السابع عشر. ففي مزاد أقامته أخيرًا دار سوذبيز، حُطّمت التوقعات عندما بيعت لوحة نادرة للفنان الهولندي فرانس بوست مقابل 7 ملايين دولار، بعد أكثر من ربع قرن على اكتشافها مصادفة في علّية ريفية مهجورة بولاية كونيتيكت الأمريكية، وقد غطّت سطحها آنذاك طبقة كثيفة من السواد حجبت تفاصيلها الأصلية بالكامل.
في عام 1998، كانت ملامح اللوحة بالكاد مرئية، إلا أن خبير المزادات جورج واتشر أقنع اثنين من جامعي الأعمال الفنية، هما توم وجوردان سوندرز الثالث، باقتنائها مقابل 2.2 مليون دولار، في رهان جريء على ما قد تكشفه الطبقات الخفية تحت الغبار.
واليوم، وبعد ترميم دقيق أعاد إليها ألوانها الأصلية، تقف اللوحة شاهدة على واحدة من أذكى الرهانات الفنية، بعدما أعادت كتابة الرقم القياسي لأعمال بوست في مزاد لم يستغرق أكثر من دقيقتين.
مشهد استعماري نادر من قلب البرازيل
تحمل اللوحة عنوان "منظر عام لمدينة أوليندا، البرازيل، مع أطلال الكنيسة اليسوعية View of Olinda, Brazil, with Ruins of the Jesuit Church"، وقد أنجزها فرانس بوست عام 1666، لتصبح واحدة من أقدم الشهادات البصرية التي وثّقت البرازيل الاستعمارية من منظور أوروبي.
تكمن جاذبية اللوحة في تفردها التاريخي والبصري؛ فقد أمضى بوست قرابة ثماني سنوات في شمال شرق البرازيل، خلال فترة السيطرة الهولندية، ليكون من بين قلّة قليلة من الفنانين الأوروبيين الذين رسموا تفاصيل دقيقة عن البيئة الطبيعية والسكان والحياة الاستعمارية في أمريكا الجنوبية.
ورغم أن بوست عاش في البرازيل قرابة ثماني سنوات، إلا أنه لم يُنتج عددًا كبيرًا من الأعمال خلال تلك الفترة، وهو ما يزيد من ندرة هذه اللوحات الفنية وقيمتها التاريخية، لأنها تمثّل شهادات محدودة على تلك المرحلة الاستعمارية من منظور عيني.
Sotheby’s
وكان الطلب يتوزع على أعمال بوست حينذاك بين تجّار وساسة يريدون توثيقًا واقعيًا، وأثرياء يفضّلون لوحات حالمة تفيض بالحيوانات الغريبة والمشاهد الاستوائية. وقد قدّمت لوحة "منظر أوليندا" مزيجًا من الاثنين، إذ جمعت بين مشهد ريفي هادئ وتفاصيل غريبة تشبه الزينة الاستعمارية في أطراف اللوحة.
قبل أن تستقر اللوحة في الولايات المتحدة ضمن مجموعة خاصة، تنقّلت بين أيدي مقتنين فرنسيين، من بينهم عم الإمبراطور نابليون بونابرت، ما يضيف إلى سجلها التاريخي طبقة من العمق والسرد.
لكنها لم تكشف عن أسرارها إلا بعد عقود، حين عُرضت على خبير ترميم بارز في نيويورك، بدأ عملية متأنية لإزالة طبقات كثيفة من الغبار والسواد التي حجبت تفاصيلها لعقود.
ومع تقدّم الترميم، بدأت ملامح المشهد بالظهور تدريجيًا: سماء صافية، وشخصيات سوداء البشرة تنقل سلالًا، وحيوانات من العالم الجديد بينها حيوان المدرّع، وآكل نمل، وتمساح يستقر في الزاوية السفلية اليسرى، في تكوين بصري نابض بالحياة والمفارقة.
وفي تعليق لافت، قال جورج واتشر رئيس سوذبيز في أمريكا الشمالية والجنوبية: "نحو 40% من الأعمال التي تمر علينا تكون مغطاة بالأوساخ؛ لكن مع لوحة بوست، كنا نعرف أننا ننظر إلى شيء استثنائي".