بين أروقة كريستيز وسوذبيز، تسابقت أنظار جامعي الأعمال الفنية على اقتناء روائع تعود لعصور مختلفة، من روعة عصر النهضة إلى سحر المدرسة الهولندية وأمجاد البندقية الكلاسيكية. وفي هذا المشهد، برزت خمس لوحات، كل واحدة منها تحمل حكاية من الإبداع والتاريخ، وتختصر جوهر الفخامة في عالم الفن.
جيريت دو – مشهد داخلي لكوخ مع امرأة عجوز وصبي
جسّد الرسام الهولندي جيريت دو، أحد أبرز تلاميذ رامبرانت وأكثرهم براعة في نقل التفاصيل الدقيقة، رؤيته الواقعية في لوحته الشهيرة A cottage interior with an old woman delousing a boy’s hair (مشهد داخلي لكوخ مع امرأة عجوز تُنقّب شعر صبي)، التي تُعد من أرقى الأمثلة عن فن الطبيعة النوعية الهولندية في القرن السابع عشر.
العمل يُظهر كوخًا متواضعًا يغمره ضوء خافت، وبداخله تجلس امرأة عجوز، تُعرف غالبًا في الأدبيات الفنية بأنها والدة رامبرانت، وهي تُنقّب شعر صبي صغير مستلقٍ على حجرها، في طقس منزلي بسيط لكنه مشبع بالواقعية والإنسانية.
حول الشخصيتين تنتشر عناصر الحياة اليومية: طعام، وأدوات منزلية، وأوانٍ نحاسية، ما يمنح اللوحة عمقًا رمزيًا عن العناية والدفء العائلي.
أما التقنية المتقنة في توزيع الضوء والظل، فتمنح العمل طابعًا مسرحيًا يبرز مهارة دو في محاكاة أستاذه رامبرانت مع بصمة شخصية مميزة.
اللوحة، التي نُظر إليها طويلاً على أنها أحد روائع المشاهد الداخلية، بيعت في يوليو الماضي بمزاد كريستيز لندن بمبلغ 2.88 مليون دولار أمريكي.
Christie's
لورينزو دي كريدي – القديس كويرينوس
وبالرجوع إلى عصر النهضة الإيطالي، نجد لوحة Saint Quirinus of Neuss (القديس كويرينوس النوسي) للفنان الإيطالي لورينزو دي كريدي، وهي من الروائع النادرة من عصر النهضة.
تنبض اللوحة بتوازن بديع بين القوة العسكرية والروحانية، إذ يظهر القديس واقفًا في وضع مهيب، مرتديًا درعًا برونزيًا مُتقن الزخارف، تتناغم معه الجوارب الحمراء الزاهية والعباءة الخضراء والحمراء التي تنسدل بانسيابية على كتفيه، وفي يديه عصا وشعار يعكسان صرامة الشخصية وقوة الإرادة للمحارب الروماني.
في مزاد سوذبيز لندن بتاريخ 2 يوليو 2025، حازت اللوحة اهتمامًا كبيرًا من هواة الفن، لتُباع بسعر 3.71 مليون دولار أمريكي، متجاوزة التقديرات الأولية التي راوحت بين مليونين و3 ملايين دولار، مؤكدة مكانة دي كريدي بوصفه واحدًا من أبرز رسامي عصر النهضة الإيطالية وصانع لوحات تتسم بالهيبة والدقة البصرية.
Sotheby's
تيتيان – بورتريه رجل نبيل أمام نافذة
لم تكن لوحة Portrait of a nobleman, seated before a window (بورتريه رجل نبيل أمام نافذة) لتيتيان، أحد أعظم رسامي عصر النهضة الإيطالي، مجرد لوحة تقليدية، بل شهادة بصرية على رمزية المكانة الاجتماعية والنفوذ السياسي في القرن السادس عشر.
العمل، الذي بيع في مزاد كريستيز لندن مقابل 4.70 مليون دولار أمريكي، جسّد قدرة تيتيان على المزج بين البراعة التقنية والبعد الرمزي العميق.
اللوحة تصوّر رجلاً من طبقة النبلاء، يجلس في هدوء وتأمل، مرتديًا رداءً داكنًا يُبرز وقاره وهيبته. وخلفه نافذة مفتوحة تكشف عن مشهد بحري رحب، تلمع فيه الأمواج وتبحر السفن، في إشارة واضحة إلى ثراء العائلة ومكانتها المستندة إلى القوة البحرية والتجارة العالمية.
لقد عُرف عن تيتيان براعته في تصوير ملامح الوجه والنظرات الموحية، مانحًا المُشاهد إحساسًا بأن النبيل ما زال حاضرًا بيننا.
Christie's
يان دافيدس دي هيم – الطبيعة الصامتة
وفي سياق آخر من الفن الهولندي، برع يان دافيدس دي هيم، أحد أعلام العصر الذهبي، في تقديم مشهد للطبيعة الصامتة يتجاوز المألوف.
في قلب اللوحة، تتراقص عناصر مشهد وليمة بصرية غنية: فطيرة على طبق من البيوتر، وليمونة نصف مقشّرة بتوازن متقن، وملعقة فضية تعكس نورًا خافتًا، وقشريات بحرية من كركند وجراد البحر داخل وعاء صيني فاخر.
تحيط بهذه الألوان والنسيج البصري سلال فاكهة متنوعة من عنب وخوخ وجوز ورمان، إلى جانب كؤوس مذهبة وزجاجية من طراز رويمر Roemer، لتشكل معالم لوحة تفيض بالثراء والترف الاجتماعي.
لكن جمال اللوحة الحسي لا يطغى على رسالتها الرمزية العميقة؛ فالعناصر القابلة للزوال، من الفواكه إلى الكائنات البحرية، تجسد مفهوم الفناء، لتذكّر بأن الملذات الدنيوية، مهما بدت باهرة، سرعان ما تزول. هذا المزيج بين الإبهار البصري والدلالات الفلسفية جعل اللوحة محط إعجاب كثير من هواة الجمع.
وفي مزاد كريستيز لندن مطلع يوليو 2025، أكدت اللوحة مكانتها في السوق الفني العالمي بتحقيقها 5.04 مليون دولار أمريكي، لتبقى شهادة حيّة على استمرار بريق فنون الطبيعة الصامتة رغم مرور قرون على ابتكارها.
Christie's
كاناليتو – عودة موكب البوتشنتورو في يوم الصعود
وتتويجًا لهذه المبيعات اللافتة، جاءت اللحظة الأبرز مع عمل جيوفاني أنطونيو كاناليتو، Venice, the Return of the Bucintoro on Ascension Day (البندقية، عودة موكب البوتشنتورو في يوم الصعود)، المنجز عام 1732، والذي بيع في كريستيز لندن مقابل 43.82 مليون دولار أمريكي. هذا السعر لم يكن الأعلى في تاريخ الفنان فحسب، بل احتل أيضًا المرتبة الثانية لأغلى عمل من فئة "كبار الرسامين القدامى" يُباع في الدار.
جسّدت اللوحة موكب البوتشنتورو الفخم الذي كان رمزًا لسلطة دوق البندقية خلال احتفال عيد الصعود، وفيها ينسج كاناليتو تفاصيل معمارية دقيقة مع أجواء احتفالية صاخبة تتزاحم فيها القوارب تحت سماء صافية تتخللها سحب بيضاء شفافة، لتكشف عن عبقريته في المزج بين الدقة والبهاء البصري.
Sotheby's
أما على صعيد السوق الفنية، فقد ضاعفت الصفقة قيمة أغلى لوحة بيعت في يوليو من العام الماضي، لتؤكد أن أعمال كاناليتو لا تزال تحافظ على بريقها وجاذبيتها الاستثمارية، وتعيد الاعتبار للوحة التاريخية مازالت أحد أبرز الرموز في عالم الفن.