في قلب جزيرة السعديات، حيث تتجاور الفنون والمعارف تحت سقف واحد، افتُتح أخيرًا متحف زايد الوطني ليكتب فصلاً جديدًا في رحلة الإمارات الثقافية، مجسدًا إرث الأب المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وقيمه الراسخة التي جعلت من الثقافة ركنًا من أركان نهضة الأمة.
صرح معماري يروي ذاكرة المكان
يمتد هذا الصرح المعماري على مساحة تتجاوز 56000 متر مربع، وتتقاطع فيها جذور التاريخ مع آفاق الفكر الإنساني، في تصميم هندسي يلهم الأجيال ويعيد تعريف العلاقة بين الفن والمعرفة. وقد صاغ هذه الرؤية المصمم العالمي اللورد نورمان فوستر، الحائز جائزة بريتزكر، مستثمرًا بصمته المميّزة في ابتكار معمار عصي على الاستنساخ، تميّزه خمسة
أبراج فولاذية مستوحاةمن جناح الصقر في أثناءالتحليق، ويصل ارتفاع أعلى برج فيها إلى 123 مترًا. من هذا الأساس ينطلق محتوى الصرح الداخلي، إذ تروي صالاته حكاية وطن عبر معارض تجمع بين التحف الأثرية والأعمال التركيبية المعاصرة والعروض السمعية والبصرية، في سرد بصري متصل يعكس رحلة الإمارات من جذورها الأولى إلى حاضرها المزدهر وطموحاتها اللامتناهية نحو المستقبل.
Zayed National Museum
ويتواصل أثر التصميم ليصوغ أيضًا الحكاية التي يقدّمها المتحف، إذ تزخر مجموعة مقتنياته بأكثر من ثلاثة آلاف قطعة نادرة، اختير منها نحو ألفٍ وخمسمئة لتشكّل الخيط السردي الذي يوثّق تحوّلات هذه الأرض وحضاراتها المتعاقبة. وتبدأ رحلة الزائر قبل بلوغ الصالات نفسها، عبر حديقة المسار الممتدة على طول ستمئة متر بين متحف اللوفر أبوظبي ومتحف التاريخ الطبيعي الذي افتُتح أخيرًا، إذ تتولّى الطبيعة سرد الفصل الأول. فهناك تتجاور النباتات المحلية مع نظام الأفلاج التقليدي، وتتناثر منحوتات فنية تستلهم سيرة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، لتعيد رسم ملامح الإمارات منذ جذورها الأولى حتى حاضرها المزدهر.
Zayed National Museum
فصول الزمن في صالات العرض
تضم مقتنيات المتحف قطعًا أثرية من العصر الحجري القديم، والعصر الحجري الحديث، والعصر البرونزي، والعصر الحديدي والعصر الإسلامي، اكتشفتها فرق بحثيةفي مختلف أنحاء الدولة منذ أكثر من 65 عامًا. تمتد فصول المعرض عبر ست صالات عرض دائمة، لكل منها بصمتها السردية وروحها الخاصة التي تنسج تفاصيل الذاكرة الإماراتية في نسيج متكامل من الفن والتاريخ. وخلال جولتهم في صالات العرض، يخوض الزوار رحلة عبر تاريخ هذه الأرض، تبدأ من أحفورة رودست ثنائية الصدفة التي يزيد عمرها على 70 مليون سنة وتعد من أقدم الأمثلة على الحياة في المنطقة، مرورًا بنظام الأفلاج القديم الذي شكل موردًا رئيسًا للحياة، وصولاً إلى تأسيس اتحاد الإمارات لتصبح الدولة الرائدة التي نعرفها اليوم.
في صالة "بداياتنا" تجد سيرة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، بصوته وصوره ومقتنياته ورسائله الشخصية لتمنح الزائر لحظة قربٍ من رجل صنع ملامح وطن. ثم تمضي الرحلة إلى صالة "عبر طبيعتنا" التي تُعيد رسم العلاقة الأزلية بين الإنسان والبيئة، وتستعرض كيف شكّلت الجبال والصحاري والسواحل ملامح الهوية ومقومات الصمود. وفي صالة "إلى أسلافنا" يعود الزمن إلى أكثر من ثلاثمئة ألف عام، لتتجلّى البدايات الأولى للحضور الإنساني على هذه الأرض الغنية بالاكتشافات والأثر.
Zayed National Museum
وتتواصل الرحلة إلى صالة "ضمن روابطنا" التي تحتفي بالهوية الثقافية التي صاغتها اللغة العربية وانتشار الإسلام وما حملاه من قيم ومعرفة، قبل أن تنفتح الأبواب على صالة "في سواحلنا" التي تروي بحسٍ فنيّ قصة البحّارة والغواصين من أيام ابن ماجد إلى زمن التجارة والتبادل الحضاري.
Zayed National Museum
ويُختتم المشهد في صالة "من جذورنا" التي تمضي عميقًا في تفاصيل الحياة الاجتماعية والعادات والتقاليد التي شكّلت ملامح المجتمع الإماراتي وبنت صلابته الإنسانية عبر الزمن.
انطلاقة جديدة للمشهد الثقافي الإماراتي
احتفاءً بالافتتاح الكبير، يفتح متحف زايد الوطني أبوابه على تجربة لا تقتصر على تأمل المعروضات، بل تمتد إلى رحلة حسية متعددة الطبقات تجمع بين الفكر والفن والحياة. يستضيف المتحف عروضًا أدائية حية وورش عمل تفاعلية وجولات إرشادية تضع الزائر في قلب التجربة الثقافية، لتتحول الزيارة إلى حوار متواصل مع التاريخ والمعرفة. وتكتمل التجربة بمذاقات إماراتية فاخرة يقدمها مطعم إرث ومقهى الغاف، إلى جانب مجموعة مختارة من المقاهي المتناثرة في حديقة المتحف، لتجعل من المكان رحلة للروح والعقل معًا.
Zayed National Museum
وفي هذا يقول معالي محمد خليفة المبارك، رئيس دائرة الثقافة والسياحة – أبوظبي: "متحف زايد الوطني يمثل القلب النابض لهوية دولة الإمارات، ويقدّم من عمق المنطقة الثقافية في السعديات سردية وطن يلتقي فيه الماضي بالحاضر في مشهد واحد من الإلهام".







