في الثاني والعشرين من شهر فبراير الفائت، احتفى الشعب السعودي بيوم التأسيس، ليتكرّس هذا اليوم مناسبة لاستعادة ذاك التاريخ المجيد الذي وضع لبنته الأولى في عام 1727 الإمام محمد بن سعود معلنًا تأسيس الدولة السعودية الأولى وعاصمتها الدرعية. وقد عادت الأنظار في السنوات الأخيرة لتتطلع إلى هذه الحاضرة مع انطلاق عجلة المشروع الطموح لتطويرها تماشيًا مع أهداف رؤية المملكة للمستقبل، ليتبع ذلك اختيارها أواخر السنة الفائتة من قبل المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم عاصمة للثقافة العربية لعام 2030. 

تاريخ مجيد

تقع مدينة الدرعية القديمة، التي أبصرت النور مع هجرة مانع بن ربيعة المريدي إليها في القرن الخامس عشر، في إقليم اليمامة بشمال غربي الرياض، وقد اشتُق اسمها في الأصل من قبيلة الدروع التي استوطنت وادي حنيفة في القرن الخامس عشر الميلادي وحكمت حجر والجزعة.

هناك، على ضفاف الوادي، الذي يُعدّ اليوم أفضل وجهة ترفيهية للعائلات السعودية إذ تهرب من صخب المدينة إلى فضائه الرحب ومزارع النخيل التي تزيّنه، تنامت الدرعية في ظل تأسيس الدولة السعودية الأولى حتى احتلت موقع الصدارة على الطريق التجاري من شرق الجزيرة إلى غربها، بموازاة تحكّمها في طريق الحج إلى مكة المكرمة.

آنذاك، شكلت المدينة واحة لمجتمع نموذجي ونواة لدولة ذات مكانة سياسية واقتصادية وعسكرية ودينية. وبالرغم من أن الدرعية سقطت في أواخر عام 1818 وخلفتها مدينة الرياض عاصمة للبلاد، إلا أنها ما فتئت تشكل القلب التاريخي والثقافي للمملكة، هناك حيث يتردد إلى يومنا هذا صدى تاريخ يمتدّ عبر أكثر من 300 عام وتصخب بحكاياته مواقع أثرية، في طليعتها حيّ الطريف حيث عاشت عائلة الدرعية الحاكمة تحت قيادة الإمام محمد بن سعود.

صورة من ستينيات القرن الفائت لأحد قصور حي ّ الطريف

صورة من ستينيات القرن الفائت لأحد قصور حي ّ الطريف

المتحف المفتوح

في عام 2010، أدرج حيّ الطريف على لائحة اليونسكو لمواقع التراث العالمي. وإذا ما زرت اليوم هذا الحيّ، المبني بالطوب اللبِن ومواد طبيعية أخرى من القرن الثامن عشر، وتنقلت عبر ساحاته وأزقته وأبراجه التي تزهو بمعالم العمارة النجدية الأصيلة فيما تحكي قصة أسلوب الحياة السعودية التقليدي، تخال أنك تطأ فضاءات متحف مفتوح في الهواء الطلق.

ففي هذا الحيّ الذي يحرسه وادي حنيفة من كل صوب، تتناثر مبان أثرية - من قصر سلوى الذي شكل مركزًا للسلطة، والذي يحتضن في محيطه أربعة متاحف مميزة (متحف الدرعية، والمتحف الحربي، ومتحف الخيل العربية، ومتحف الحياة الاجتماعية)، إلى بيت المال وقصر الأمير سعد بن سعود حديث الترميم الذي يُعد من أكبر صروح الحي – تلفت ناظريك إلى لوحة تراثية بهية.

حي الطريف الأثري

Ameen_Qaisran/حي الطريف الأثري

وجهة المستقبل

لا يزال العمل مستمرًا اليوم لتطوير حيّ الطريف التاريخي في سياق مشروع إنمائي ضخم بقيمة 75 مليار ريال سعودي يهدف إلى تكريس مدينة الدرعية وجهة سياحية تحتفي بالتاريخ والثقافة والتراث. يشمل مخطط مشروع تطوير بوابة الدرعية، الذي اعتُمدت في تنفيذه مقاربة مستدامة تستلهم مزيجًا من العمران الحديث وطراز العمارة النجدية التاريخية، استحداث المتاحف، والمعارض، والساحات العامة، والمرافق الترفيهية، والمؤسسات التعليمية، لا سيّما المعاهد الثقافية المتخصصة في العمارة النجدية والبناء بالطوب، بالإضافة الى الشعر والصقارة، والمسرح المحلي وفنون الطهي.

صورة من أحد سباقات بطولة فورمولا إي في الدرعية

Andrew Ferraro/صورة من أحد سباقات بطولة فورمولا إي في الدرعية

في حيّ الطريف، جرى ترميم مجموعة من المباني الطينية المطلة على أحد الشوارع الرئيسة لاستحداث سوق تراثي تُعرض فيه منتجات حرفية ويضم في جانب منه مجمّعًا للمطاعم وواحات داخلية وخارجية في الساحة التي يشرف عليها قصر عبدالله بن سعود.

عند أطراف الحيّ التاريخي، يمتد متنزّه يربطه بحي الجبيري المقابل له من موقعه عند الضفة الشرقية لوادي حنيفة، والذي بدأ يستعيد ألقه التاريخي والثقافي. فالحيّ، الذي يتمايز بأزقته الملتوية، وبيوته الطينية المنخفضة، وأبوابه الخشبية الثقيلة، يشهد عملية تطوير حثيثة لتأهيل شوارعه التاريخية بمناظر طبيعية خلابة، ومسارات للدراجات ولركوب الخيل، إلى جانب تهيئته لاستقبال مركز للمطاعم العالمية الفاخرة، وواحة الدرعية للفنون، وفندق سمحان المكوّن من 142 غرفة بطابع تراثي نجدي، والساحة التي تحتضن مجموعة من المحال التجارية وتشكل ميدانًا للعروض الفلكلورية والأنشطة الموسمية.

مشروع تطوير بوابة الدرعية التاريخية

مشروع تطوير بوابة الدرعية التاريخية

كما شمل مخطط المشروع ترميم كيلومترين مربعين من وادي حنيفة التاريخي وتجميل مزارع النخيل التاريخية، جنبًا إلى جنب مع مسارات المشي الجديدة حيث يتسنّى للمقيمين والزوار التنزه وسط المناظر الطبيعية على امتداد ثلاثة كيلومترات تطل على الوادي.

في الدرعية، التي استضافت في شهر يناير الفائت وللعام الثاني على التوالي سباق الفورمولا إي، والتي شرّعت فضاءاتها بدءًا من أواخر العام الفائت للنسخة الأولى من بينالي الدرعية للفن المعاصر (المستمر حتى الثاني عشر من هذا الشهر)، تختزل هذه المشاريع الإنمائية المرحلة الأولى من مشروع تطوير الدرعية والتي يتوقع اكتمالها هذا العام.

لكن المدينة تشهد ورشة عمل ضخمة تتجاوز هذه المرحلة لتشمل على سبيل المثال افتتاح ساحة الدرعية المرتقب بحلول عام 2024. سيشكل حيّ الساحة القلب التجاري للمشروع، على ما أعلنت عنه هيئة تطوير بوابة الدرعية في نوفمبر من العام المنصرم.

عمل فني تركيبي بعنوان "ولادة مكان"

بينالي الدرعية/عمل فني تركيبي بعنوان "ولادة مكان"

وفيما سيظل الحي متشبثًا بأرض الثقافة والتراث، سترتكز رؤية تطويره إلى ثلاث قيم رئيسة هي الأصالة التي يستحضرها الاعتماد على مبادئ التصميم والهندسة في العمارة النجدية، والمستقبل الذي سيتجلى في هيئة مدينة عصرية مزدهرة للأجيال المقبلة، والمكان الذي سيشكل وجهة رائدة للعيش والعمل والتجوال تتكامل فيها المرافق الخدمية والتجارية.

باختصار، سيضم حيّ الساحة مجموعةً من أفخم المرافق في مجال الثقافة، والضيافة، والبيع بالتجزئة، والترفيه والتسلية.

في المستقبل غير البعيد، تبدو الدرعية وجهة سياحية عالمية تستقطب 25 مليون زائر سنويًا على ما هو متوقع، متيحة لهم اختبار تجارب متفردة تعد بها مجموعة وفيرة من الفنادق التابعة لعلامات عالمية، وما يزيد على 100 مطعم، و400 علامة راقية للبيع بالتجزئة أُفردت لها المساحات وسط بيئة أصيلة وأنيسة من الشوارع والساحات.