عندما أراد ماتْ بورييتسكي، الخبير المالي المُقيم في بوسطن، إضافة ساعةٍ جديدة إلى مجموعته المشتملة على طرز من إيه لانغيه أند صونه ورولكس، التفتَ إلى صانعي الساعات المستقلين بهدف "تعزيز" المجموعة، على ما يقول. فامتلاك ساعةٍ قَيّمة بتوقيع أحد هؤلاء الصناع بمنزلة طقسِ يرتقي بالهواة إلى دائرة النخبة. لكن سرعان ما اكتشف بورييتسكي أن امتلاك الموارد والاهتمام حتى العلاقات المناسبة لم يكن كافيًا لاقتناء ساعات الدور المستقلة.

وفي هذا يقول متحسّرًا: "لقد تَعذّر عليّ الانضمام إلى تلك النخبة، إما لأنني لم أصل بعد إلى المستوى المطلوب، أو لأن باب المشاركة لم يُفتح في وجهي. قد أسمعُ عن علامةٍ ما أو عن إصدارٍ جديد، ولكن كل ما أستطيع فعله هو مراسلة الشركة المعنيّة عبر البريد الإلكتروني أو عبر تطبيق إنستغرام. لقد كانت رحلة مُحبِطة للغاية، إذ باءت محاولاتي كلها بالفشل". 

ليس بورييتسكي الوحيد الذي خاب سعيه. فقد ازداد الطلب على طرز العلامات المستقلة في السنوات الثلاث الأخيرة، لدرجة أن كبار هواة الجمع - أولئك الذي يحوزون أحدث الإصدارات قبل غيرهم - يجدون أنفسهم على قائمة الانتظار. لم يكن الوضع هكذا دائمًا، على ما يقول مايكل هيكوكس، المدير التنفيذي المقيم في لندن.

كان هيكوكس يجمع بعض ساعات العلامات المستقلة منذ بداياتها، ويَستذكر أن الصانع الفنلندي كاري فوتيلاينن قد أتى عليه حينٌ من الدهر لم يكن يَصِله فيه طلبٌ واحد. في حديث مع مجلة Robb Report، يشير أحد الجامعين إلى أنه أُدرِج في عام 2017 على قائمة انتظار تمتد لعامٍ واحد عندما ابتغى اقتناء إحدى ساعات فوتيلاينن. تَغيّر الحال الآن، إذ يُشاع أن قائمة الانتظار تمتد لفترة تُراوح بين 10 سنوات و12 سنة. 

حتى عندما يَنالُ هيكوكس هذه الأيام فرصة طلب ساعةٍ من إحدى العلامات المستقلة، فإن الأمر لا يخلو من مُنغّصات، وفي هذا يقول: "إن وقت التسليم طويل للغاية، كما أن المعاملة التجارية مَشوبةٌ بالمخاطرة". قبل مدة، طلب هيكوكس ساعةً من الثنائي الياباني كيكوشي ناكاغاوا، فجرى إعلامه أن عليه الانتظار 10 سنوات قبل استلامها، كما أن عليه دفع 45% من سعرها مُقدمًا. يقول هيكوكس: "أعتقد أنهم يَعِدون بالقليل مقابل الوفاء بالكثير، على ما آمل". ويُتابع: "هذه الطريقة مناسبةٌ لتَنحية المُضاربين والأشخاص غير الجادين. ومهما كان الحال، أظن أن هذا هو الواقع الجديد الذي ينبغي تقبله". 

فريق إم بي أند إف خلال العمل في مقر M.A.D. House الجديد.

MB&F
فريق إم بي أند إف خلال العمل في مقر M.A.D. House الجديد.

الواقع المعقّد 

يُؤثّر هذا التزاحم على الساعات في معظم الصانعين المستقلين البارزين. فعلى سبيل المثال، إن أي زبون يطلبُ اليوم ساعةً من ساعات فوتيلاينن لن يتسلّمها إلا في عام 2030. والحال نفسه يَسري على ساعات إف بي جورن، إذ إن الطرز المتاحة منها اليوم تَكاد تَنفد، وقائمة الانتظار تمتد عقدًا من الزمن.

كان من المفترض أن تَعرض العلامة أحد ابتكاراتها المتفردة في مزاد أونلي واتش قبل قرار إلغائه، ومن المتوقع أن تُطلق أيضًا إصدارًا محدودًا في عام 2024 (يُقال إنه آخر إصدار سيعمل عليه فرانسوا بول جورن) بمناسبة الذكرى العشرين لافتتاح متجر الدار في طوكيو. ومع ذلك، لن يتمكن هواة العلامة من معاينة آلية الحركة الأجدد إلا في عام 2027.

أما الدار الهولندية غرونفيلد، فإن موقعها الإلكتروني يعرض الرسالة التالية: "نعتذر عن استقبال الطلبات الجديدة حتى إشعار آخر. إننا نستجيب حاليًا للطلبات الكثيرة التي تَلقّيناها بخصوص ساعة 1969 DeltaWorks وساعة 1941 Grönograaf. نشكر لكم تفهمكم وصبركم".

ساعة MB&F HM9 بتوقيع إم بي أند إف.

MB&F
ساعة MB&F HM9 بتوقيع إم بي أند إف.


إنها مشكلة مُستَحبّة من الناحية النظرية، ولكن الواقع أكثر تعقيدًا. وفي المقابلات التي أَجرَتها مجلة Robb Report مع هؤلاء الصنّاع الحاذقين، قالوا إن الإحباط يَنتابهم بقدر ما ينتاب زبائنهم المُنتظِرين. ازدهرت العلامات المستقلة منذ عام 2021، وقتَ كان الزبائن الأوفياء والجدد على حد سواء مَحبوسين في منازلهم مع أموالهم الطائلة بسبب جائحة كورونا.

ومع أن الاهتمام الطارئ والزيادة الهائلة في المبيعات فاقا أقصى طموحات هؤلاء الصناع، إلا أنهما أيضًا مصدر إرهاق وتعب. لطالما كان صِغر الحجم الميزةَ التي تَجذب هواة الساعات إلى العلامات المستقلة. لكن طائفةً منها اضطرّت إلى توسيع محترفاتها، أو تعيين موظفين جدد، أو حتى الاستحواذ على شركات أخرى بهدف تأمين المكوّنات الضرورية في عملية الإنتاج.

يُضاف إلى ذلك تنافس هواة الجمع مع عدد متنام من الزبائن على النماذج المحدودة. وفي هذا يقول ماكسيميليان بوسير، مؤسس إم بي أند إف: "بحلول عام 2021، دَخلنا مرحلة لم نتوقعها حتى في أكثر أحلامنا جموحًا. لم يكن من المفترض أن يحدث ذلك. لم يكن من المفترض أن تكبر الشركة وتصير بهذا الحجم. لقد كان أكبر هَمّنا أن نُصدِر ساعةً تَضمن استمراريتنا، ثم نُتبِعها بأخرى، وهكذا دواليك. لكننا صِرنا فجأة نجومًا يَتحلّق حولنا المتحلقون".

ساعة Deep Space Resonance بتوقيع فياني هالتر.

Vianney Halter
ساعة Deep Space Resonance بتوقيع فياني هالتر.


أطلق الأخوان تيم وبارت غرونفيلد ساعة 1969 DeltaWorks (ساعة مشغولة في علبة من الفولاذ المقاوم للصدأ تبلغ قيمتها 54,000 دولار ويقولان إنها "ساعةٌ رياضية مُفيدة") في عام 2022، وكانت قائمة الأشخاص الراغبين في اقتناء الساعة الجديدة طويلة للغاية آنذاك أيضًا، على ما يقول بارت.

كانت العديد من الأسماء المُدرَجة في هذه القائمة امتدادًا للقائمة التي خصّصها الأخوان غرونفيلد في عام 2016 لساعة Remontoire التي بيعت نماذجها بالكامل في نحو عامين. وفي هذا يقول بارت: "لقد حَثَثنا الأفراد المتبقين في القائمة آنذاك على انتظار الساعة الجديدة التي ستحل محل ساعة Remontoire، وأقنعناهم بأنها ستنال إعجابهم أيضًا.

وهذا ما كان، فما إن حطّت أبصار العديد منهم على الطراز الجديد حتى تَلقّفوه بشدة. بعدها، كان الأمر ضربًا من الجنون". ويقول بارت إن علامة غرونفيلد باعت ما يفوق طاقتها الإنتاجية على امتداد خمس سنوات في غضون دقائق معدودة، ويُوضح: "تستطيع علامتنا إنتاج 20 نموذجًا فقط في السنة، لكنها باعت 110 نماذج، ولذلك توقفنا عن استقبال الطلبات".

يُقارن بارت حالة السعار التي اختبروها وقتها بما يحدث للفرق الموسيقية البارزة إذ تُباع تذاكرُ حفلاتها في ظرفِ دقائق. ولكنه يُضيف: "يا ليتني كنت أحد نجوم موسيقا الروك، لأنني أستطيع عندئذ أن أُقدّم عرضًا موسيقيًا أمام ثمانين ألف شخص بدون أن يَنزعج مني أيّ منهم بعد نهاية الحفل".

بارت غرونفيلد في محترفه الواقع بهولندا.

بارت غرونفيلد في محترفه الواقع بهولندا.

آفاق توسّعية 

بسبب الاهتمام الجماهيري والطلبات المتدفقة، اضطر معظم الصنّاع المستقلين الذين حاورَتهم المجلة إلى توسيع نطاق أعمالهم بطريقة أو بأخرى. في حالة فوتيلاينن، تَجسّد الحل في شراء شركات عدة، وهي استراتيجيةٌ لطالما فَضّلها ولكنه دُفِع إلى تسريع وتيرتها في الآونة الأخيرة.

كان قد استحوذ على شركةٍ متخصصة في صناعة موانئ الساعات في عام 2014، ثم استحوذ في عام 2018 على شركة متخصصة في صناعة العلب. وبعد أن استحوذ في عام 2022 وحده على شركتين معروفتين متخصصتين في زخارف غيوشيه، افتتح في خريف عام 2023 ورشةً لابتكار الساعات المصممة حسب الطلب.

مع ذلك، لم يزدد عدد النماذج التي يطرحها في السنة زيادة ملحوظة. وفي هذا يقول فوتيلاينن: "أمتلك العديد من الشركات، كما أوظف فريقًا أكبر من ذي قبل، ولكن الإنتاج يظل تقريبًا على حاله. كُنا نُصدر في السابق ما بين 50 و60 نموذجًا، فأصبحنا الآن نَطرح ما بين 60 و70 نموذجًا في السنة. إنها زيادة طفيفة للغاية، كأنها قطرة في محيط". 

قد تكون المكاسب المذكورة طفيفة، لكنها تَهدف بالأساس إلى إبقاء الموظفين سعداء واحترام مواعيد التسليم الحالية، وليس إلى زيادة حجم الإنتاج. نَجح ماكسيميليان بوسير، الذي يَطرح نماذج أكثر من فوتيلاينن، في رفع الإنتاج في السنوات الثلاث الماضية من 276 نموذجًا في السنة إلى 400 نموذج تقريبًا.

في الأشهر الثمانية الماضية فقط، نَما فريق علامة إم بي أند إف من 31 شخصًا إلى 50 شخصًا، كما جرى نقل مقرّها الرئيس إلى موقع جديد يمتد على مساحة 7,000 قدم مربعة، بعد أن كان محصورًا في 2,500 قدم مربعة. يقع المقر الجديد في مدينة جنيف السويسرية، ويحمل اسم "ماد هاوس" M.A.D. House، على اسم الابتكارات الميكانيكية التي تطرحها الدار.

يُشير بوسير إلى أن الإنتاج كان محدودًا لمّا وقّعت الشركة عقد الإيجار في عام 2021، ولكن تَبيّن أن هذا الاستثمار العارِض كان في محلّه. لا أحد في إم بي أند إف كان يَتوقع أن تَنشأ الحاجة إلى مساحةٍ أكبر لمواكبة الطلبات المتزايدة. يقول بوسير: "في السابق، كان أعضاء الفريق كلهم يُجهدون أنفسهم في العمل. ولهذا السبب قرّرنا إضافة أعضاء جدد لإنقاص الحِمل عن الأفراد الذين يقتربون من حافة الإرهاق". 

وقبل عامين، نقلت شركة غرونفيلد مقرّها الرئيس إلى مبنى في مدينة أولْدِنزال الهولندية بمساحة 2,300 قدم مربعة، أي ثلاثة أضعاف مساحة المقر السابق الذي يقع حيث كانت روضة الأطفال التي ارتادَها تيم وبارت في طفولتهما. مع ذلك، لم يعد الأخوان يتطلّعان إلى زيادة الإنتاج. وفي هذا يقول بارت: "نحن راضيان عمّا أنجزناه، والتحدّي الذي يواجهنا الآن يتمثل في الحفاظ على فريق العمل نفسه، وإبقاء أعضائه سعداء، وإبقاء صانعي الساعات سعداء، وتمكينهم من الاستمتاع".

كاري فوتيلاينن في محترفه الواقع في موتييه بسويسرا.

Michel Villars
كاري فوتيلاينن في محترفه الواقع في موتييه بسويسرا.

النقص في المواهب 

العامل الآخر الذي يُؤثر على إنتاج العلامات المستقلة هو نقص المواهب الجديدة، وهذا ما يؤكده بوسير، إذ يُشير إلى أن أكبر عائق يُجابهه هو العثور على حرفيين قادرين على تحقيق مستوى التشطيبات اليدوية الذي تتطلبه ابتكاراته. وفي هذا يقول: "نحن في عام 2023، فهل لكَ أن تتخيل شابًا في العشرين من عمره يكونُ حُلمه استخدامَ المِنظار وإمساك مِبرَدٍ لتشطيب حواف جسور الساعات؟ لا أدري أين هذا الشاب، لكنني أعتقد أن أمثاله قد انقرضوا". ولهذا السبب خصوصًا يقول بوسير: "إن هذه الحِرفة دخلت مرحلة الاحتضار".

بالإضافة إلى ذلك، يَتوخّى العديد من صنّاع الساعات الشباب السيرَ على خُطى أسلافهم المستقلين. وفي هذا يقول صانع الساعات الفرنسي فياني هالتر: "يَرغب كثير منهم في خَوض رحلاتهم الخاصة وكتابة سيرتهم بأيديهم. إنهم يريدون انتزاع نصيبٍ من الكعكة". 

لكن، إلى متى سيستمر هذا العصر الذهبي؟ يُحذّر هالتر، الذي يمتلك محترفه الخاص منذ عام 1985، من مَغبّة الانسياق وراء إنماء العلامات المستقلة بسرعة، خصوصًا في ظل الضجة الإعلامية التي تُحيط بنجاحات الأسلاف، وفي ظل سهولة الاستفادة من الأدوات التسويقية الحديثة المتمثلة بوسائل التواصل الاجتماعي.

يَشرح هالتر: "لا أدري إن كان من المناسب الارتقاء بسرعة فيما العمل الشاق يستغرق الوقت الطويل. أرى في هذا المسار خطرًا على الصنّاع الشباب". فما طار طيرٌ وارتفع، إلا كما طار وقع. ويُضيف: "لقد بدأتُ مسيرتي في أواخر تسعينيات القرن الفائت، وقد مررت بالعديد من الأزمات. لذلك تَعلّمت أن آخذ الحيطة والحذر من النجاح".

هذا ما هو عليه أيضًا حال علامة غرونفيلد، إذ مرّت هي الأخرى بفتراتٍ عدة من الركود، وفي هذا يقول بارت: "لقد تبادر إلى ذهني في كل مرة من تلك المرات أن النهاية قادمة لا محالة". ويُتابع: "راودتني فكرة التوقف أربع مرات على الأقل".

ساعة Cushion Shape Worldtime بتوقيع فوتيلاينن.

Voutilainen
ساعة Cushion Shape Worldtime بتوقيع فوتيلاينن.

بين التوريث والاستثمارات الخارجية

لكن بعد أن رَسَت علامات الصنّاع المستقلين، الذين تُراوح أعمارهم بين 51 و66 عامًا، على أسس أكثر صلابة، يُفكر العديد منهم اليوم في مصير شركاتهم بعد التقاعد. يُولي كثيرون منهم مسألة الاستقلالية أهمية كبرى، ما يعني في حالة بعضهم تسليم المِشعل إلى أفرادٍ من العائلة.

على سبيل المثال، ابنة فوتيلاينن صانعةُ ساعاتٍ وتُشرف على الورشة التابعة لشركة "أوربان يورغنسون" Urban Jürgensen (يمتلك والدها هذه الشركة بمعيّة مستثمرين آخرين). أما ابنه، فيَدرس هندسة المواد في المعهد السويسري الاتحادي للتكنولوجيا في لوزان. ويقول فوتيلاينن إنهما منفتحان على فكرة مواصلة أعمال العائلة. يخطط بارت غرونفيلد وشقيقه أيضًا لإبقاء الشركة التي أسّساها في عام 2008 في ملكية العائلة. وفي هذا يقول: "أنتمي أنا وأخي إلى الجيل الثالث من صنّاع الساعات في العائلة.

لي ابنتان، وله ابنان، وجميعهم بدون استثناء يَتحضّرون إما ليُصبحوا صانعي ساعات أو ليُضيفوا قيمةً إلى الشركة بشكل أو بآخر".

لكن بعض الصنّاع لا يستبعدون الاستثمارات الخارجية. فعلى سبيل المثال، باع فرانسوا بول جورن حصة قدرها 20% من شركته إلى شانيل في عام 2018. وتَذكر بعض التقارير أن ولديه الاثنين لا يَرغبان في مواصلة عمله.

على أن بعض الأخبار تفيد بأن دار شانيل لا تتدخل في عمل الشركة، وفي هذا يقول بيير حليمي، المدير العام لعلامة إف بي جورن في أمريكا: "ليس المال غرض شانيل من هذا الاستثمار، إذ لديها ما يكفي ولا تحتاج إلينا لتكسب المزيد. إن ما تريده هو الإرث المرتبط باسم العلامة". ويُضيف حليمي أن شركة إف بي جورن بصدد إعداد الخليفة الذي سيشغل منصب الرئيس التنفيذي. كما أن مديري الشركة يتطلعون إلى أحد الصنّاع الشباب ليحل محل فرانسوا بول جورن على رأس القسم الإبداعي. 

يُفكر بوسير هو أيضًا في تعيين رئيسٍ تنفيذي ومدير إبداعي للشركة عندما يحين الوقت المناسب، فيما يُشير صناع آخرون إلى أن فكرة استقدامِ شركاء جدد باتت أكثر جاذبية من ذي قبل. يقول بارت غرونفيلد: "لطالما أَعرَضنا عن المستثمرين الذين يَبتغون زيادة رقم المعاملات فحسب، والسبب هو أن هذه الزيادة تكاد تكون مستحيلة، لأنها تقتضي بالضرورة زيادة عدد صنّاع الساعات. ولكن إذا تَلقّينا عرضًا استثماريًا من شركةٍ تعتزم زيادة عدد العاملين، فالأمر قابل للنقاش، لأنه سيتيح لي ولأخي تأمين مستقبلنا بعد التقاعد، عوضًا عن القلق بشأن أموالنا المستثمرة في العلامة". 

لم يكن كسب مزيد من المال غاية هؤلاء المبدعين قط، لأن هَمّهم صناعةُ ساعاتٍ مبتكرة لزبائنهم الأوفياء (حتى ولو اضطر هواة الجمع إلى الانتظار لسنوات عديدة). وفي هذا يقول بارت غرونفيلد: "لا يدور الأمر دائمًا حول كسب المزيد والمزيد، بل حول الاستمرارية".

أما فياني هالتر، فيرى أن من المهم إضفاء لمسة شخصية على الابتكارات التي يُبدعها، إذ يقول: "أَحرص على مقابلة الزبائن وقت تسليم الساعة ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، لأن هذا يُسهم في تثمين العمل المُنجَز ويُضيف قيمةً إلى الساعة".

على غير ما هو عليه حال العلامات الكبرى، خصوصًا تلك التي تتبع ملكيتها عمالقة المنتجات الفاخرة، لا تَجري الدور المستقلة وراء تحقيق مداخيل محددة، كما أنها لا تخضع لسلطة أعضاء مجلس إدارة معيّن. يُؤْثِر الصناع المستقلون العمل تحت هذه الشروط، على ما يقول بوسير مضيفًا: "لم نُنشئ، أنا وكاري فوتيلاينن وفرانسوا بول جورن وفيليكس بومغارتنر، هذه العلامات طلبًا للمال. سَهِرنا ليالي كثيرة محاولين النجاة فحسب. لم يكن التوسّعُ همّنا إطلاقًا، لأن ما دفعنا إلى هذا المجال كان السرور والافتخار النّابِعيْن من ممارسة هذه الحِرفة، ولأنها قصتنا. لقد حققنا النجاح، وهذا شأنٌ عظيم، لكنه لم يكن غايتنا قط".

 ساعة 1941 Remontoire بتوقيع غرونفيلد.

Grönefeld
ساعة 1941 Remontoire بتوقيع غرونفيلد.


النجاح أمرٌ حَسن، ولكن الشيء الوحيد الذي يَفتقر إليه هؤلاء الصناع كلهم هو الشيء الذي نَذروا حياتهم له: الوقت. هذا الافتقار يُضرّ بالإبداع، لأن الساعات والدقائق والثواني اللازمة للانكباب على الأفكار الجديدة لم يعد لها وجود. يقول بوسير: "أحاول أن أكون دبلوماسيًا قدر الإمكان، ولكن الابتكار هو الأمر الوحيد الذي يُشعرني بالحيوية.

الإنتاج؟ لا. البيع؟ لا والله. التسويق؟ لا. أشعر بالحماس والنشاط عندما أنغمس في ابتكار الساعات فحسب". في أثناء المقابلة التي أجريناها مع بوسير عبر تطبيق زووم، عَرَض بعض النماذج الأولية المتناثرة على مكتبه الواقع في جنيف، ومنها قطعةٌ مكتبية مُسلّية وغريبة تتخذ هيئة عنكبوت مصممةٌ لاحتضان ساعات الجيب التي يمتلكها.

كما أشار إلى أنه بقيد تطوير تسع آليات حركة جديدة. يُتابع ضاحكًا: "أشعر بإحباط كبير الآن، لأنني كلما عرضت فكرة جديدة على فريقي، أراهم يلتفتون إليّ بلطف بالغ قائلين لننتظر إلى عام 2031. بعبارة أخرى، عليّ الانتظار إلى أن أبلغ من العمر 64 عامًا، وهذا أمرٌ لا أطيقه".

صعود المتمرّدين

إذا لم تتهيأ لك فرصة حيازة إحدى ساعات العلامات المستقلة الراسخة، فقد تَجد مرادك في طرز الصنّاع المذكورين أدناه، والذين غادروا مشاغِل العلامات الكبرى وغيرها من المحترفات البارزة لإنشاء مشاريعهم الخاصة. وعلى الرغم من حداثة عهد هذه العلامات، إلا أن عدد هواة الجمع الراغبين في امتلاك ابتكاراتها في تزايد مستمر. 

هيرفي شلوشتر 

كان مُقدّرًا للصانع هيرفي شلوشتر Hervé Schlüchter أن يلفت انتباه المهتمين بصناعة الساعات، وذلك لأنه تَتلمذَ على يد فيليب دوفور، الأب الروحي لصنّاع الساعات المستقلين في العصر الحديث. ولكن حتى قبل تَلمّس إرشاد الأستاذ السويسري، كان شلوشتر قد قَضى عقدًا من الزمن في دار بوفيه، حيث تَدرّج في المراتب حتى أصبح مدير منشأة التصنيع Dimier 1738، قبل أن يغادر في عام 2017 للعمل بصفةٍ مستقلة مع علامات أخرى. لم يشعر شلوشتر بأنه على أتمّ استعدادٍ لإطلاق علامته وافتتاح محترفه في مدينة بيال السويسرية إلا في مارس عام 2022، بعد أن تَلقّى توجيهات دوفور.

ساعة L'Essentiel من Hervé Schlüchter

Hervé Schlüchter
ساعة L'Essentiel من Hervé Schlüchter


في يونيو عام 2023، طرح شلوشتر ساعته الأولى الرفيعة L’Essentiel. إن أول ما يلفت الأنظار في هذه الساعة هو زخارف غيوشيه اليدوية التي تُزين الميناء المشغول من الفضة الألمانية. تُحيط بهذا الميناء حلقةُ دقائق بيضاء مصقولة بطلاء المينا باستخدام تقنية الإشعال في الفرن، كما أنه يقترن بعداد ثوانٍ مصقول بطلاء المينا ويستقر عند مؤشر الساعة 6.

ويشتمل الميناء أيضًا على قرص دوّار مشغول من الأفينتورين، يُشير إلى الساعات الأربع والعشرين من خلال شمسٍ مطلية بالذهب وقمر مشغول من الفضة. تنطبع على هذا القرص الدّوار العبارة اللاتينية التالية: "Hodie Nunc"، والتي تعني "اليوم والآن"، لكنها قابلة للتخصيص بما يُناسب ذائقة الزبون. بالإضافة إلى ذلك، تَمتد البراعة الحرفية لشلوشتر إلى آلية الحركة المحتجبة أسفل الميناء، إذ تتمايز بتشطيبات رفيعة للغاية، كما هو مُنتظر من شخص تتلمذ على يد دوفور، الذي يُعد أعظم خبير حيّ في زخرفة الساعات. يقتصر إنتاج هذه الساعة الفاخرة الحصرية على 25 نموذجًا فقط، ويُقدّر سعرها بنحو 86,000 دولار أمريكي.

بِرنهارد زوينز 

قد يكون أكثر ما يُثير الإعجاب في برنهارد زوينز Bernhard Zwinz، الصانع النمساوي المقيم في فالي دو جو بسويسرا، أنه صنع وحده ساعة Founder’s Series (في الصورة) التي تُعد أول ساعة تطرحها علامة وينيرل Winnerl التي أسسها في عام 2012. إنها مهمة بالغة الصعوبة، حتى بالنسبة لكبار الصانعين المستقلين.

ثلاث ساعات من Bernhard Zwinz .

Bernhard Zwinz
ثلاث ساعات من Bernhard Zwinz .


في عام 2020، أصدر زوينز ساعة Tremblage المستلهمة من جهاز الكرونوميتر البحري الذي صممه صانع الساعات جوزيف ثادوس وينيرل، الذي تحمل العلامة اسمه. يستغرق إكمال تشطيبات عجلة الميزان وحدها خمسة أيام، فيما يتطلّب استحداث التأثير البرّاق للميناء المشغول من الذهب الوردي استخدامَ أداة نقشٍ للنقر بخفة على سطحه أكثر من 200,000 مرة.

قبل أن يشرع زوينز في العمل لحسابه الخاص في عام 2004، عمل لصالح العديد من العلامات المهمة، مثل فاشرون كونستانتين وروجيه دوبوي، وكان أول صانع ساعات يُعيّنه فيليب دوفور، وقد أمضى معه أربع سنوات كاملة.

تتجسد تلك الخبرات كلها في طريقة التصميم التي يتبعها، وفي كيفية بناء آليات الحركة، وفي التشطيبات أيضًا. 

طرح زوينز ثلاث نسخ مختلفة من ساعة Founder's Series المستمدة من جهاز الكرونوميتر البحري، وتشتمل كلها على عقارب زرقاء من الفولاذ مصقولة كالمرآة. صيغت النسخة الأولى في علبة من الذهب الأبيض بزنة 18 قيراطًا واقترنت بميناء أزرق مشغول من الذهب (بسعر 77,210 دولارات)، فيما صيغت النسخة الثانية في علبة من الذهب الوردي بزنة 18 قيراطًا واقترنت بميناء أبيض مطلي بطلاء المينا (بسعر 77,210 دولارات). أما النسخة الأخيرة، فقد جاءت في علبة من البلاتين واقترنت بميناء أسود مصقول بطلاء المينا (بسعر 99,000 دولار). اقتصر إنتاج ساعة Tremblage على 6 نماذج فقط، وقد بيعت كلها على الفور.

سيلفان بينو SYLVAIN PINAUD

أنشأ سيلفان بينو Sylvain Pinaud محترفه الخاص في سانت كروا بسويسرا في عام 2018، بعد أن قضى أعوامًا في العمل لصالح علامة فرانك مولر بصفة صانع ساعات ولصالح علامة كارل إف بوخرير بصفة صانعٍ للنماذج الأولية.

ساعة Origine من Sylvain Pinaud .

Sylvain Pinaud
ساعة Origine من Sylvain Pinaud .


في عام 2022، أحدثت ساعة Origine التي طوّرها ضجة كبيرة في قطاع الساعات بعد نيلها جائزة جنيف الكبرى للساعات (أوسكار الساعات) عن فئة الكشف الساعاتي الجديد. تتمايز الساعة بتصميم غير متماثل، إذ يستقر ميناء الساعات والدقائق الأبيض اللون بين مؤشري الساعة 1 و3، ويتداخل مع عداد الثواني الأبيض الذي يستقر بين مؤشري الساعة 8 و10.

أما عجلة التوازن الكبيرة والجسور المشغولة من الذهب الوردي، فتجد لها مُستقرًا عند مؤشر الساعة 6. وتطفو هذه العناصر كلها فوق صفيحةٍ فضية بديعة التشكيل. خضعت مختلف مكوّنات الساعة لتشطيبات يدوية رفيعة، بداية من آلية الحركة الأصيلة والعقارب المشغولة من الذهب الوردي والجسور، ونهاية بالجواهر والبراغي.

في عام 2023، أضفى بينو طابعًا أحدث على ساعة Chronograph Monopoussoir التي أصدرها في عام 2019 بناءً على طلب ويليام ماسينا، خبير المزادات الأسبق ومستشار الساعات الذي أراد الطراز لإثراء مجموعته الخاصة.

انبثق عن هذا الطلب تعاون بين بينو وشركة "ماسينا لاب" Massena Lab، التي أسسها ماسينا لتطوير الساعات وبيعها بالشراكة مع صانعين مستقلين آخرين. كانت حصيلة هذا التعاون نسخةَ أكثر إبهارًا من ساعة بينو الأصلية. يقتصر إنتاج هذه الساعة على 10 نماذج فقط، ويصل سعرها إلى 147,000 دولار.