لم يكتفِ جاكسون بولوك، رمز التعبيرية التجريدية وأحد الفنانين الأكثر تأثيرًا في القرن العشرين، بتغيير ملامح اللوحة التقليدية، بل ابتكر أسلوبًا حوّل فيه فعل الرسم نفسه إلى تجربة جسدية وانفعال تعبيري متكامل. واليوم، يأتي اكتشاف علمي جديد ليضيف بعدًا آخر لفهم إرثه، عبر تحديد المصدر الحقيقي للون الأزرق الزاهي في لوحته الشهيرة Number 1A, 1948.
بفضل تقنيات تحليل كيميائي متقدمة، تمكّن فريق من الباحثين من تحديد هذا اللون بدقة غير مسبوقة، مؤكدين للمرة الأولى أن بولوك لجأ إلى استخدام صبغة صناعية تُعرف باسم الأزرق المنغنيزي. هذه المادة، التي ارتبطت قديمًا بتلوين الفنون وأحواض السباحة، خرجت من الاستخدام منذ تسعينيات القرن الماضي لدواعٍ بيئية، لتعود اليوم إلى الواجهة من خلال هذا الكشف.
اللوحة الفنية، التي يتجاوز عرضها 2.7 متر، والمحفوظة في متحف الفن الحديث بنيويورك، تجسّد أسلوب بولوك الفريد القائم على تناثر الألوان في إيقاع محسوب، مع لمسة شخصية أودعها الفنان عبر بصمات يديه.
ورغم أن الدراسات السابقة حددت مصادر الألوان الحمراء والصفراء في العمل، إلا أن الأزرق طلّ لغزًا عصيًّا حتى جاء هذا التحليل ليفتح الباب أمام قراءة جديدة لأحد عناصر اللوحة الأشد تأثيرًا.
أوضح الباحث إدوارد سولومون من جامعة ستانفورد أن تحديد مكونات اللون على المستوى الجزيئي يضيف بعدًا جديدًا لتقدير العمل الفني. أنا عبد حداد، من فريق حفظ الأعمال الفنية في المتحف، فحدد منهجية التحليل بروح بولوك نفسه، الذي كان يتنقل بين أدواته بحرية مطلقة، سواء عبر العصي أو بسكب الطلاء مباشرة، في عملية تبدو عشوائية ظاهريًا لكنها تحمل انضباطًا داخليًا واضحًا.
هذه الدراسة، المنشورة في مجلة وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم، تمثل أول دليل علمي موثق على استخدام بولوك للأزرق المنغنيزي. والأهمية هنا لا تقتصر على إثراء فهمنا لتقنياته، بل تمتد إلى مجال حفظ وترميم الأعمال الفنية، إذ يُساعد هذا النوع من التحليل في التحقق من أصالة اللوحات، ورسم خطط دقيقة لصيانتها.
وقد يكون ما يجعل أعمال بولوك بيئة مثالية لمثل هذه الأبحاث هو اعتماده على صب الطلاء مباشرة من دون خلط مسبق، ما يتيح للعلماء الحصول على عينات دقيقة تسهّل عملية التحليل. وبذلك، يصبح كل اكتشاف جديد نافذة أخرى لفهم العلاقة العميقة التي ربطت بولوك بمواده، وجعلت من كل لوحة شهادة حية على زمن الحداثة الفنية.