حين يجتمع الإبداع النادر بقيمة السوق العالية، تتحول الأعمال الفنية إلى أحداث ثقافية قائمة بذاتها. هذا ما تعد به دار كريستيز نيويورك في مزادها المنتظر 20th Century Evening Sale (أمسية فنون القرن العشرين)، إذ تعرض ثلاث لوحات استثنائية للفنان الأمريكي جون سينغر سارجنت، في مجموعة بعنوان In Pursuit of Light (في أثر الضوء)، تُقدّر قيمتها الإجمالية ما بين 12 مليون دولار و17 مليون دولار أمريكي، ما يجعلها من مقتنيات المزاد الأبرز وأكثرها جذبًا للمهتمين بالفن الانطباعي الأمريكي.

اللوحات الثلاث، المملوكة لمجموعة كارول وتيري وول، ستُعرض لأول مرة في صالات كريستيز باريس، في توقيت يتناغم بدقة مع افتتاح معرض Sargent: The Paris Years (سارجنت: سنوات باريس) في متحف أورسيه Musée d'Orsay، بعد أن حصد المعرض نفسه نجاحًا كبيرًا في متحف المتروبوليتان للفنون في نيويورك خلال موسمي الربيع والصيف الماضيين.

رؤية ضوئية لمدينة البندقية

يجسّد العملان الأولان في المجموعة مشاهد ضوئية لمدينة البندقية، لكن بعينين تفصل بينهما قرابة عقد من الزمن، ورغبة واحدة: التقاط الضوء كما لم يُرَ من قبل.

اللوحة الأولى، Corner of the Church of San Stae, Venice (زاوية من كنيسة سان ستاي، البندقية)، تُقدّر قيمتها بين 6 ملايين دولار و8 ملايين دولار أمريكي، وتُعد من لوحات سارجنت الزيتية الأشد ندرة، وقد أنجزها خلال زياراته المتكررة للبندقية. 

اللوحة تنقل مشهد المدينة بثرائه الضوئي وتكويناته المعمارية الصامتة، إذ يظهر افتتان سارجنت العميق بما أسماه النقاد لاحقًا الضوء البنائي، ذاك الضوء الذي لا يكتفي بإنارة التفاصيل، بل يبني المشهد حجرًا فوق حجر. 

وتتعزز القيمة التاريخية للعمل بكونه قد شغل مكانة ضمن مجموعة هنري كلاي فريك، أحد جامعي الأعمال الفنية الأبرز في التاريخ الأمريكي، ما يضفي إلى تفرده بُعدًا نادرًا من التوثيق. 

شراكة فنية نادرة بين كريستيز نيويورك ومتحف أورسيه تُعيد أعمال جون سينغر سارجنت إلى الواجهة

Christie's

بعد سنوات، عاد سارجنت إلى المدينة نفسها، لكن بأدوات مختلفة، في لوحة Gondolier's Siesta (قيلولة الجندولي)، التي تراوح قيمتها ما بين مليوني دولار و3 ملايين دولار أمريكي. 

فيها يتحوّل الزيت إلى ألوان مائية، ويتحوّل الصمت المعماري إلى مشهد إنساني نابض بالحياة. فقد رسم سارجنت مجموعة من الأشخاص في استراحة عابرة على ضفاف القناة الكبرى. ومازال الضوء هو البطل، لكنه هذه المرة يتسلل عبر الحركة، ويلامس الأجساد، في انسجام بصري يبرز براعة سارجنت في التلاعب بالانسيابية اللونية والتكوين الحي.

شراكة فنية نادرة بين كريستيز نيويورك ومتحف أورسيه تُعيد أعمال جون سينغر سارجنت إلى الواجهة

Christie's

بدايات سارجنت في كابري

العمل الثالث في المجموعة، Capri (كابري)، يفتح نافذة على لحظة حاسمة في بدايات سارجنت. فالعمل أُنجز في خريف عام 1878 حين كان الفنان الأمريكي في الثانية والعشرين من عمره، خلال إقامته في جزيرة كابري الإيطالية. 

في هذا المشهد البسيط المنسوج بضوء الجنوب، يصوّر سارجنت مشهدًا يوميًا من الحياة المحلية، تتقدمه روزينا فيرارا، الراقصة التي ستصبح لاحقًا إحدى ملهماته الأكثر حضورًا في أعماله.

تظهر روزينا وهي ترقص بحركة حيوية تُذكّر مباشرةً بالوضعية الدرامية في لوحة سارجنت الشهيرة El Jaleo (الاحتفال)، المعروضة في متحف إيزابيلا ستيوارت غاردنر في بوسطن. 

ويُنظر إلى هذا العمل بوصفه قرينًا شبه توأم للوحة Capri Girl on a Rooftop (فتاة كابري على سطح)، المحفوظة في متحف كريستال بريدجز، والتي تنقّلت أخيرًا بين أروقة متحف المتروبوليتان للفنون في نيويورك، وتتجه لاحقًا إلى العرض في متحف أورسيه بباريس.

وبما يحمله من إشارات واضحة على التحوّل من الرسم الأكاديمي إلى التعبير الحر، ومن النماذج الرسمية إلى الحياة اليومية، يُعد هذا العمل نقطة انعطاف مبكرة في مسيرة سارجنت، ما يرفع من قيمته التقديرية إلى ما بين 4 ملايين دولار و6 ملايين دولار أمريكي.

إلى جانب روائع سارجنت، سوف تحتضن مجموعة وول قطعًا متميزة من اللوحات الانطباعية التي تمثل قمة الفن الأمريكي في مطلع القرن العشرين. 

إذ تضم المجموعة أعمالاً بارزة لفنانين عظام مثل ماري كاسات، التي أسهمت بلمستها الرقيقة والمتمردة في نقل الحياة اليومية، وتشايلد هاسام المعروف بتصويره الحيوي للمشاهد الحضرية والضوئية، وفريدريك فريسيك الذي جمع بين التقنية الفرنسية والتأثيرات الأمريكية لابتكار أعمال تتميز بالدفء والوضوح، إلى جانب ويليام ميريت تشايس، أحد رواد الانطباعية الأمريكية الأبرز وأستاذ أجيال من الفنانين.