بعد عقود من احتفاظ عائلة الفنان الفرنسي هنري ماتيس بمجموعة نادرة من رسوماته، خرجت هذه الأعمال الفنية أخيرًا إلى النور لتُحدث ضجة في مزاد خيري استثنائي أقيم عبر الإنترنت في 8 أكتوبر، محققًا أكثر من 2.5 مليون دولار أمريكي، أي ما يفوق التقديرات الأولية البالغة 1.5 مليون دولار. الحدث الذي حمل عنوان Henri Matisse: Lines of Connection (هنري ماتيس: خطوط التواصل) نظمته دار كريستيز بالتعاون مع مؤسسة بيار و تانا ماتيس Pierre and Tana Matisse، دعمًا لمؤسسات فنية غير ربحية في نيويورك.
رغم أن ماتيس عُرف أساسًا بوصفه رسّامًا فذًّا، إلا أن إرثه امتد إلى النحت والرسم الطباعي، واشتهر بألوانه القوية التي أسست لحركة الفوفيين، أو "الوحوش البرية"، كما وصفها النقاد حينذاك. ومع تقدمه في العمر، حينما أعاقه المرض عن الإمساك بالفرشاة، ابتكر ماتيس عالمًا جديدًا من القصاصات الورقية الملوّنة التي أصبحت علامة خالدة في مسيرته الإبداعية.
تنوّعت الرسومات الستون المعروضة في مزاد كريستيز بين دراسات وأعمال بسيطة بخطوطها لكنها آسرة بحساسيتها، وراوحت أسعارها بين 80 ألف و800 ألف دولار أمريكي. غير أن المفاجأة الكبرى جاءت مع عمل Deux têtes (رأسان)، الذي استوقف المتابعين بلمحته الإنسانية العميقة، وقد بيع بمبلغ 304 آلاف دولار، أي أكثر من ثلاثة أضعاف تقديره الأعلى، ليكرّس مكانته بوصفه نجمةً المزاد ويعيد إلى الذاكرة روح الدعابة والانسجام التي ميّزت أعمال ماتيس في سنواته الأخيرة.
Christie’s
لم يكن التفوّق حكرًا على هذا العمل، إذ شهد المزاد تنافسًا لافتًا على مجموعة من الرسومات الأخرى التي حملت توقيع ماتيس، وعبّرت عن تنوّع أساليبه في التعبير البصري. فقد بيعت لوحة Etude pour La robe jaune (دراسة لفستان أصفر) بسعر بلغ 127 ألف دولار أمريكي، فيما حققت لوحة Autoportrait (بورتريه ذاتي) 107,950 دولارًا، وتجاوزت لوحة Les trois modeles (النماذج الثلاثة) سقف تقديراتها بخمسة أضعاف لتلامس 57 ألف دولار، مؤكدة أن كل خط من خطوط ماتيس لا يزال يحظى بتقدير استثنائي في سوق الفن المعاصر.
Christie’s
وفي لحظة تختزل فلسفة هنري ماتيس في التقاط الجمال من التفاصيل اليومية، برزت لوحة Etude de branche (دراسة لغصن) بوصفها إحدى أبرز مفاجآت المزاد، بعدما بيعت مقابل 24 ألف دولار أمريكي، أي ما يعادل ثلاثين ضعف تقديرها الأولي. هذا الإقبال اللافت على عمل بسيط في تكوينه، عميق في دلالته، يعكس استمرار تأثير ماتيس في الأجيال المعاصرة، بعد أكثر من قرن على رحيله. حتى الرسم الصغير الذي لا يتجاوز ارتفاعه سبع بوصات ويصوّر أغصانًا بخطوط دقيقة، بيع بالسعر نفسه، وكأنه توقيع أخير من الفنان على فلسفة الجمال المختزل التي طالما ميّزت مسيرته.
Christie’s
بهذه الأرقام، أعاد المزاد الأخير التأكيد على الخلود الفني لهنري ماتيس، إذ لا تزال أعماله تحقق أرقامًا استثنائية في عالم الفن الحديث. وكان آخر هذه الأرقام بيع لوحته الشهيرة Odalisque couchée aux magnolias (الجارية المستلقية تحت الماغنوليا) في مزاد كريستيز نيويورك عام 2018 بمبلغ 80.8 مليون دولار أمريكي، فيما تخطّى 41 من مجمل أعماله حاجز 10 مليون دولار، في تأكيدٍ على أن سحر خطّه لا يشيخ، وأن كل لمسة من ريشته ما زالت تحمل روح البهجة الفرنسية التي جعلت منه أحد أعظم فناني القرن العشرين.







