في عصر يُبرز الهوس بالتصفّح البصري، وحيث تُختزل الأشياء إلى محتوى رقمي، ويُقاس التصميم بعدد الإعجابات المسجلة، يتشكّل توجه أكثر هدوءًا وعمقًا. إنها ظاهرة لا تقتضي الانتباه، بل تدعو إلى الحضور، أو بمعنى آخر إلى الإصغاء بدلاً من الاستعراض.
فقد ولّت الأيام التي كان للأثاث فيها دور وظيفي فحسب، أو بُعد جمالي لأغراض الجمال حصرًا. في أيامنا هذه، يطرح الروّاد في عالم التصميم أسئلة أعمق: أي شعور يستثير فيك هذا التصميم؟ كيف يستجيب له جسدك؟ هل يدعم نمط حياتك، وإرثك، وسعيك نحو تحقيق العافية؟ باختصار، لم يعد تصميم الأثاث يتعلق بمظهر القطعة بل بتكيفها مع إيقاعات حياتنا اليومية.
بل يمكن القول إنه تصميم يدور حول الإنسان، فلا يشكل توجهًا عابرًا، بل فلسفة تضع الأفراد، والمشاعر، والطقوس، والحواس في صلب العملية الإبداعية.
تصدّرت هذه الفلسفة المشهد لهذا العام في معرض صالوني ديل موبيلي بميلانو، الذي يُعد أرفع تجمع عالمي للتصميم. آنذاك، افتتحت الرئيسة ماريا بورو المعرض برسالة تجاوز صداها جدران القاعات: "الإبداع يعني القدرة على الربط بين الصناعة، والحِرفة، والاحتياجات الإنسانية."
Tacchini
طاولات Bread Side Table التي ابتكرتها توغود لصالح علامة Tacchini مستلهمة تصميمها من خُبز العجين المخمر.
هكذا اختزلت كلماتها نقطة التحوّل في التصميم المعاصر الذي لم يعد يدور حول الإبهار أو الابتكار من أجل الابتكار، بل بات مدعوًا لخدمة ما هو أعمق: التجربة البشرية.
وإذ حمل شعار هذا العام "فكر من أجل الإنسان "ملامح هذا التحوّل، تقدّم التعاطف على الصورة، وتجاوزت الرعاية المفهوم. وإذ جسدت الحملة الرسمية للمعرض هذه الرسالة بعبارات حسيّة توحي بالحميمية، وباستعراض مواد خام مثل الخشب والمعدن والنسيج في حوار مع الجسد البشري، أكدت بورو أنه "يمكن للتصميم أن يضطلع بدور في تحسين الحياة.
الأمر لا يتعلق بالأغراض فحسب، بل بأساليب عيشنا وتفاعلنا مع الآخرين وتعبيرنا عن قيم مثل الجمال، والجودة، والرعاية."
Alessio Daniello
كرسيّ من مجموعة Squash التي أطلقتها توغود بالتعاون مع علامة الأثاث الإيطالي الفاخر بولترونا فراو.
تصميمٌ يشعر بنا
إن ما كان يُعدّ اهتمامًا نخبويًا، أصبح اليوم فلسفة تصميم حيوية وملحّة، لا تنطلق من رموز شكلية بل من الذكاء العاطفي. لا يميل هذا التصميم إلى التبسيط أو المبالغة، بل هو تصميم متعمّد: إنه الضوء الذي يتغيّر مع حالتك النفسية، والطاولة التي تحفظ أثر وجبة تشاركتها مع أحبائك، وكرسيّ يمنحك ملاذًا بدلاً من أن يكون هيكلاً فحسب. بمعنى آخر، إنه تصميم يدعم ولا يفرض الإملاءات.
وفي طليعة هذا التوجه يقف مصممون مثل فاي توغود، وفنسنت فان دويزن، وعمر القرق، وعُمر أربيل، وكلهم ينظر إلى التصميم بوصفه شكلاً من أشكال الرعاية وليس السيطرة.
بل إن أعمالهم تعكس رؤية مشتركة تفيد بأن مستقبل التصميم لا يكمن في ما يُدهش العين، بل في ما يُعمّق اتصالنا بأنفسنا، وبالآخرين، وبالفضاءات التي نسكنها.
Taran Wilkhu
بالتعاون مع دار الخزف اليابانية نوريتاكي، حوّلت توغود البورسلين التقليدي إلى تعبيرات جريئة تتباهى بأشكال الوردة.
لا تكتفي فاي توغود بتصميم الأغراض، بل تستحدث من خلالها مناظر عاطفية. يمكن القول إن أعمالها درس متقن في سبل التقاء الشكل والمادة والمعنى لتحفيز إحساس دفين في دواخلنا.
وفي هذا تقول: "إنني عاطفية جدًا، والكثير من إبداعاتي يحمل طابع السيرة الذاتية، لكنها تصاميم تنبعث أيضًا من شعور صادق بالرعاية تجاه الآخرين." الحقيقة هي أن كرسيّها الأيقوني Roly-Poly يجسّد هذه الفلسفة بخطوطه المنحنية والناعمة التي تدعو الجسد إلى الاسترخاء، والذهن إلى السكينة. تقول توغود: "يبدو الكرسي مريحًا بقدر ما هو عليه في الواقع. إنه يحتضنك، ولا يشعرك بأي صلابة.
تتواصل هذه المقاربة الحسية أيضًا في مجموعتها Squash التي أطلقتها بالتعاون مع علامة الأثاث الإيطالي الفاخر بولترونا فراو، والتي تضم كرسيًّا، ومقعدًا، وطاولة جانبية، ومرآة، وسجادة، كلها تتباهى بانحناءات لطيفة وأشكال تستدعي القرب والطمأنينة.
Vincent Van Duysen
نموذجان من كرسي Liena الذي يقدم فان دويزن من خلاله تفسيرًا عصريًا للتصميم المتجذر في التراث.
تقول توغود: "أردت تصميم مجموعة بأشكال منحوتة ولكن ناعمة في الوقت نفسه". في عالم اليوم المتسارع والحاد، تقدّم هذه القطع مكانًا هادئًا للانعزال والتأمل وإعادة الاتصال بالذات.
فضلاً عن ذلك، ترى توغود أن المصمم لا يختار المواد بل يشعر بها. من الطين، إلى الراتينج والنسيج، كل مادة تحمل وزنًا، وذكرى، وشحنة شعورية. في مجموعة Rose التي أنجزتها بالتعاون مع دار الخزف اليابانية نوريتاكي Noritake..
حوّلت البورسلين التقليدي إلى تعبيرات جريئة مرسومة يدويًا.
وعن هذا المشروع تقول: "الوردة قوية. إنها تمثل الحب والشغف، ولكنّ لها جانبًا مظلمًا أيضًا، وارتباطًا بالدم". وتضيف توغود: "قد يُنظر إلى الوردة بوصفها ذات طابع أنثوي راقٍ وهش. لكن طريقتي في رسمها مشحونة بالطاقة والقوة".
هذا التوتر بين الخام والمُتقن، هو جوهر عمل توغود. سواء في تصميم الأثاث أو الرسم على الخزف، تدمج بين القوة والرقة، وبين الجماليات والصدق العاطفي.
تقول: "كان دور المصمم في السابق هو حلّ المشكلات. اليوم، في وقت قد يتمكن فيه الذكاء الاصطناعي من تصميم كرسي أفضل مني، أرى أن دوري يتجاوز حلّ المشكلات ليُضيف إلى التصميم مشاعر إنسانية وعمقًا ذاتيًا: حِرفة، وخبرة شخصية، وعناصر تُلامس الناس على مستوى شعوري".
في عالم تحكمه الكفاءة والخوارزميات، تذكّرنا توغود بما هو جوهري في التصميم: ليس أن يخدم فحسب، بل أن يُحس، أن يحتضننا، ويُحرّكنا، ويصمد في وجداننا.
Vincent Van Duysen
طاولة الكتابة التي ابتكرها فان دويزن في تصميم منضبط يجمع بين الخفة والصلابة.
من فن الانضباط إلى التصدي للعولمة
في المقابل، يتقن فنسنت فان دويزن فنّ الانضباط المكاني. فتصميماته الداخلية مبنية على الصمت والملمس: جدران مغطاة بالجير، وخشب بلوط ثقيل، وعَتبات حجرية مرتّبة لاستحداث إحساس بالسكون.
لا شيء زائد ولا شيء صارخ، والراحة من منظوره تعني الوضوح. بل إن تصاميمه للغرف وقطع الأثاث تضطلع بدور الداعم وليس المؤدي، فتتجلى فضاءات للخصوصية يجد المرء في سكونها حيّزًا للتنفّس.
وفي هذا يقول فان دويزن: "التصميم الجيّد يتحقق عند تلك النقطة الديناميكية التي يلتقي فيها الأداء الوظيفي بالاستجابة الحسية. الأمر لا يتعلق أبدًا بكيف ستظهر المساحة، بل بتلك اللحظة التي تدخل فينا وتشعر بتغيّر في إيقاعك الداخلي".
أما المصمم الإماراتي عمر القرق، فيطرح ردًّا مؤثرًا على عولمة التصميم: حداثة متجذّرة تكرّم الثقافة من دون أن تُحوّلها إلى زخرفة. من خلال استوديو Modu Method الذي أسسه، يستكشف كيف يمكن للإنسان أن يعيش مع أشياء تعكس إرثه.
MODU Space
المشجب متعددة الوحدات Spike، ومجموعة من مكعبات Nu التركيبية التي تصلح لأغراض مختلفة، جميعها بتوقيع عمر القرق.
يكفي شاهدًا على ذلك أن التصاميم متعددة الوحدات التي يبتكرها للمجالس تُعيد تخيّل الفضاء الجماعي الخليجي بخطوط نظيفة وحِرفة إقليمية. فالقرق لا يُكرّر التقاليد، بل يُمدّدها، وأعماله تدفع بالماضي نحو الأمام، بلُطف، وبكرامة.
يقول القرق: "التصميم الجيّد بالنسبة لي يدور حول حلّ المشكلات الحقيقية وتحقيق هدف واضح: ينبغي أن يندمج التصميم في حياتنا اليومية ليجعلها أكثر سلاسة ومتعة. إلى جانب الشكل، ينبغي أن يوقظ فينا استجابة عاطفية حقيقية، ويخلق رابطًا ذا معنى.
في نهاية المطاف، الأمر كله يتعلّق بتحسين الحياة، سواء عبر استثارة الفرح، أو تبسيط المهام، أو تقديم منظور جديد". في فلسفته الإبداعية، يبدأ التصميم بالتعاطف، وينتهي بالتجربة، وتصاميمه لا تُلبّي وظيفة فحسب، بل تُمكّن من الإحساس.
وفي هذا يقول موضحًا: "من الضروري أن يجعل كل ما نصممه الحياة أكثر راحة، أو متعة، أو مغزى للمستخدم. لذا يبدأ المسار الإبداعي بفهم احتياجات الأفراد، والتحديات التي يواجهونها، ورغباتهم، وينتهي بحلول مدروسة تُحسّن تجاربهم اليومية".
في زمنٍ يطارد فيه التصميم كل جديد، يقدّم القرق ما هو أبقى: معنى متجذّر في الهوية، وإبداع ينطلق من الرعاية.
MODU Space
يقدم القرق في مجموعة Coco تفسيرًا مبتكرًا للكرسي الهزّاز.
الضوء قصيدة حيّة
في عالم عُمر أربيل بالغ الشفافية، لا يُعد الضوء عنصر إضاءة فحسب، بل ظاهرة عاطفية ومتجذّرة في المادة. من خلال استوديو بوتشي Bocci الذي أنشأة في فانكوفر، يُحوّل أربيل الزجاج والضوء إلى قصائد حيّة. تشهد على ذلك سلاسله الشهيرة مثل Bocci 28 وBocci 84، التي تتجاوز كونها مصابيح لتبدو مثل لحظات منحوتة وُلدت من الفوضى والانضباط، من الحرارة والهواء، من التوقيت والجاذبية.
ينحت أربيل قطعًا متفرّدة تتشكل في سياق عملية تقاوم التكرار. وفي هذا يقول موضحًا: "التصميم يدور حول استحداث ظروف مادية ومكانية وزمنية تُتيح التحول، وتدعو إلى ما هو غير متوقع. إنها مسار ورد فعل، وأنا أسعى لالتقاط تلك اللحظة العابرة من التحوّل".
BOCCI
تتجاوز ابتكارات عمر أربيل كونها مصابيح لتبدو مثل لحظات منحوتة.
تبدو أعماله الزجاجية حيّة تقريبًا، معلّقة في الزمن والمكان وغير مثالية، ولهذا يغلب عليها طابع إنساني بعمق. بل إن هذا الولاء للمسار التحوّلي هو ما يسمو بأعمال أربيل فوق الجدوى الوظيفية.
بين يديه، تصبح الإضاءة مزاجًا، وذكرى، وجوًّا.
فتركيباته لا تُضيء الغرفة فحسب، بل تغيّرها وتشحنها بالطاقة والغموض. يقول أربيل: "ما يهم حقيقةً هو ما إذا كانت القطعة تشعر بأنها حتمية. هل يتوافق شكلها وموادها وفكرتها بطريقة تبدو صحيحة جوهريًا؟ هذا الإحساس بالملاءمة يصبح ملموسًا حين تتفاعل مع العمل بالبصر، أو اللمس، أو الاستخدام".
من خلال الضوء والزجاج، لا يصنع أربيل منتجات، بل يقدّم لحظات من الدهشة. وفي زمن تحدده الكفاءة والتكرار، تحتفي أعماله بالتحوّل، والنقص، وقوة العاطفة المتجددة في التصميم.
في عصر الابتكار المتسارع والاتجاهات العابرة، يذكّرنا هؤلاء المصممون بأن الهدف الحقيقي للتصميم ليس بناء الأشياء فحسب، بل صياغة تجارب تُحسّ وتُسكن وتبقى.
إن ما يجمع بينهم ليس الشكل، بل القيم، بداية من اعتقادهم الراسخ بضرورة أن يخدم التصميم الإنسان وليس العين فحسب.