ديفيد بوي يعود إلى الواجهة الثقافية من بوابة متحف فيكتوريا آند ألبرت Victoria and Albert، الذي كشف عن مركز جديد يُخلّد إرث الفنان البريطاني عبر أكثر من 90,000 قطعة نادرة من مقتنياته الشخصية. ويشمل الأرشيف أزياءه الفريدة، وآلاته الموسيقية، ورسوماته المبدعة، فضلاً عن ونماذج مسرحية، ومخطوطات نادرة، إلى جانب مراسلاته التي توثق مسيرته الفائقة.
المركز الجديد، الذي يحمل اسم مركز ديفيد بوي، يقع في قلب حديقة الملكة إليزابيث الأولمبية ضمن منشأة فيكتوريا آند ألبرت إيست ستورهاوس V&A East Storehouse، ليكون وجهة فنية تفاعلية تمزج بين الماضي والحاضر، إذ يتيح للزوار فرصة استكشاف مجموعة مختارة من القطع النادرة في معارض مصغّرة، إلى جانب إمكانية حجز مواعيد خاصة لاستكشاف أرشيف بوي المذهل عن قرب والتفاعل مع خمس من القطع الأشد ندرة في مسيرته الفنية.
استغرق إعداد هذا السجل الفني الفريد نحو عامين من العمل المتواصل، بمشاركة فريق بحثي مكوّن من ستة مختصين، ولا تزال عملية التوثيق مستمرة حتى اليوم. المفارقة هي أن ديفيد بوي نفسه كان قد بدأ تنظيم أرشيفه منذ تسعينيات القرن الماضي، إذ اعتاد الاحتفاظ بملفات تفصيلية لكل ألبوم وعرض فيلم شارك فيه، بما في ذلك عناصر غير متوقعة مثل فنون المعجبين والبضائع الترويجية، ما أتاح لفريق المتحف فرصة نادرة لإعادة بناء التسلسل الزمني لمسيرته بدقة استثنائية.
وتوضح سابرينا أوفورد، مديرة الحفظ والأرشفة في فيكتوريا آند ألبرت إيست، أن بوي كان منخرطًا بعمق في بناء هذا السجل. فقد عمل مع فريقه على تحديد القطع الجديرة بالحفظ وتوثيق مصادرها، الأمر الذي ساعد القائمين على المشروع في فهم السياقات الفنية والتاريخية لكل قطعة على نحو أكثر عمقًا.
Victoria And Albert Museum
مقتنيات تُجسّد مسيرة فنية متفرّدة
يُقدّم مركز ديفيد بوي تجربة فنية متعددة الأبعاد، من خلال تسعة عروض مصغّرة تستعرض المحطات الأبرز في مسيرته، بدءًا من شخصياته الفنية المتحوّلة، مرورًا برؤاه المستقبلية، ووصولاً إلى أعماله التعاونية التي شكّلت ملامح مشهد الموسيقى المعاصرة.
تتصدّر المعروضات بدلة القفز التي أبدعها المصمم الياباني كانساي ياماموتو خصوصًا لشخصية زيغي ستاردست، والتي كرّست صورة بوي المسرحية الجريئة في السبعينيات. كما تتألق صور نادرة من جولة غلاس سبايدر Glass Spider عام 1987.
وإلى جانب ذلك، يجد الزائر نوتة موسيقية أصلية لأغنية فايم Fame التي شكّلت إحدى المحطات الأشهر في مسيرته، فضلاً عن مقتنيات من فيلم باسكيا Basquiat الذي جسّد فيه شخصية آندي وارهول، لتتجاور مع البلورة الكريستالية الشهيرة من فيلم لابيرينث Labyrinth، في إشارة إلى تنوّع إرثه الذي امتد من الموسيقى إلى السينما والفن التشكيلي.
Victoria And Albert Museum
من بين مئات الأزياء التي تألق بها ديفيد بوي على خشبة المسرح، يقدّم المركز مجموعة مختارة تُبرز تنوع أسلوبه وقدرته على المزج بين الفن والأداء، ومن بينها تصميمات المصمم فريدي بورتي لجولة دايموند دوغز Diamond Dogs، التي عكست الروح المسرحية المتمرّدة في منتصف السبعينيات، وأزياء من إبداع ديانا موزلي لجولة غلاس سبايدر المبهرة في الثمانينيات.
ويقف الزائر أمام بدلة حمراء لامعة ذات ياقة ريشية كثيفة، ابتكرها بوي بالتعاون مع بورتي، وارتداها في أدائه الشهير لأغنية I Got You, Babe إلى جانب المغنية ماريان فايثفول عام 1973، في لحظة لا تزال محفورة في ذاكرة عشاقه.
Victoria And Albert Museum
أما الآلات الموسيقية، فتفتح نافذة على الجانب الآخر من مسيرته، إذ يُعرض الغيتار الذي استخدمه في فيديو أغنية سبيس أوديتي Space Oddity عام 1969، إلى جانب آلات مميزة مثل الكاليمبا، وسينثيسايزر، وآلة نادرة أهداها له صديقه الفنان مارك بولان، فضلاً عن الساكسفون الذي يُعد أول آلة موسيقية امتلكها في حياته.
يفتح الأرشيف الورقي الباب على أوسع ما يكون لاكتشاف عالم بوي الداخلي، إذ يضم أكثر من 900 صندوق تكتنز رسومات وملاحظات وسيناريوهات، ليشكّل أكبر مخزون من أفكاره الإبداعية الخاصة.
بين هذه الكنوز تصميمات بديلة لم يُكتب لها أن ترى النور، مثل مقترحات أولية لغلاف ألبوم Low، ورسومات مسرحية لعروض زيغي ستاردست التي ساهمت في تكريس صورته التاريخية.
ويكشف الأرشيف أيضًا عن جانب سينمائي قلّما عُرض للجمهور، من خلال سيناريو بديل لفيلم ميري كريسماس مستر لورانس Merry Christmas, Mr. Lawrence، إلى جانب صفحات مليئة بالملاحظات والتعديلات التي سجّلها بنفسه خلال عمله على مسرحية لازاروس Lazarus. كل صندوق هنا بمنزلة فسيفساء فنية تُبرز كيف عاش بوي ليبتكر، ويعيد اختراع ذاته بلا توقف.
Victoria And Albert Museum
إبداع لم يكتمل.. لكنه حاضر
يُفاجئ الأرشيف الزائر بمشاريع ظلّت حبيسة الأوراق، تكشف عن طموح بوي الذي لم يعرف حدودًا. ففي السبعينيات، حلم بتحويل رواية جورج أورويل George Orwell إلى عمل مسرحي موسيقي، لكنه اصطدم برفض ورثة الكاتب.
كما عمل لاحقًا على مشروع موسيقي طموح بعنوان ليون Leon، كان من المفترض أن يتخذ شكل عرض حيّ وفيلم متكامل، ليجسد نزوعه المبكر إلى التجريب بالوسائط المتعددة.
وحتى في أشهره الأخيرة، لم يتوقف عن التخطيط؛ إذ بدأ بتجميع الأفكار لعمل موسيقي يحمل عنوان ذا سبيكتاتور The Spectator، استوحاه من صحيفة تعود إلى القرن الثامن عشر، وخصص له دفتر ملاحظات ولوحة كبيرة غصّت بأوراق الملاحظات اللاصقة، في دليل على حيوية إبداعه حتى النهاية.
Victoria And Albert Museum
ولا يتوقف الأرشيف عند مشاريعه الشخصية، بل يمدّ اليد إلى تفاعل جمهوره معه. من بين مقتنياته لوحة مائية تجريدية استلهمها أحد المعجبين من جلسة تصوير غلاف ألبوم علاء الدين سين Aladdin Sane، وتمثال ميكانيكي يُجسّد بوي في زي بييرو Pierrot الشهير من فيديو آشيز تو آشيز Ashes to Ashes.
والأكثر إثارة هو أن بوي احتفظ بنحو 117 رسالة مختارة من معجبيه، من دون أن يوضح سبب انتقائه لها تحديدًا، وكأنها تحمل معنى خاصًا لا يعرفه سواه.
وقد تكون المفارقة الأبرز هي أنّه كان يجمع منتجاته الترويجية مثل أي عاشق لموسيقاه، محتفظًا بصناديق مكدّسة بالدبابيس والشارات الرسمية والمقلّدة، في إشارة طريفة إلى علاقة الفنان بجمهوره ووعيه بسطوة صورته الثقافية.