في لحظة شك نادرة في مسيرة عملاق الانطباعية كلود مونيه، بدا كأن النهر الإبداعي الذي غيّر تاريخ الفن الفرنسي قبل عقود بدأ ينحسر. سلسلة لوحات زنابق الماء التي كرّس لها سنواته الأخيرة تحوّلت إلى هاجس؛ يعيد لمسها بلا نهاية، ويؤجل عرضها مرارًا، قبل أن يتخذ القرار القاسي: إلغاء المعرض والتخلّي مؤقتًا عن سلسلة زنابق الماء بالكامل.
لكن هذا الانطفاء لم يدم طويلاً. فبعد عام واحد فقط، ظهر مونيه كأنه فنان آخر. المزاج تبدّل، والفرشاة استعادت ثقتها، واليد التي ترددت طويلاً عادت ترسم بعفوية مدهشة. السر في هذه العودة وقفت خلفه مدينة واحدة: البندقية.
اليوم، يتتبع معرض أنيق في متحف بروكلين تفاصيل هذه الانعطافة بدقة لافتة، كاشفًا كيف تحوّلت رحلة استغرقت ثلاثة أشهر في مدينة البندقية إلى نقطة مفصلية في أواخر مسيرة مونيه. هناك، كتب الفنان إلى وكيله أنه صار قادرًا على رؤية لوحاته بعين أفضل، وكأن المدينة العائمة أعادت له القدرة على النظر إلى أعماله من مسافة جديدة. البندقية لم تكن مجرد خلفية رومانسية لرسام مخضرم، بل كانت مختبرًا بصريًا مفتوحًا منح مونيه زاوية مختلفة للتعامل مع الضوء واللون والكتلة والانعكاس، وهي العناصر نفسها التي ستعود لاحقًا لتغذي سلسلة زنابق الماء بروح جديدة.
Brooklyn Museum
المعرض، الذي جرى افتتاحه في أكتوبر الماضي يضم نحو 100 عمل فني يدور حول سلسلة مونيه في مدينة البندقية. لكن اللوحات الفنية لا تُعرض بوصفها جزيرة معزولة في مسيرته، بل جرى وضعها في حوار حيّ مع تاريخ طويل من تصوير المدينة.
فعلى الجدران، تتجاور رؤى مونيه مع مناظر البندقية التي رسَمها كاناليتو، ومع لوحات القنوات وأضوائها الهلامية عند ج. م. و. ترنر J. M. W. Turner، في مقارنة تكشف ماذا أضاف مونيه إلى صورة المدينة، وماذا أخذ منها في المقابل.
Brooklyn Museum
من هذه النافذة تحديدًا يحاول المعرض تفكيك الصورة النمطية الراسخة عن مونيه. فعادةً، حين يستدعي الذهن اسم مونيه، تحضر فورًا أكوام التبن الغارقة في ضباب الريف الفرنسي، ومناظر لو هافر البحرية، ثم الضباب الخفيف الذي يلف مبنى البرلمان البريطاني في لندن. هذه هي الصورة الكلاسيكية المكرّسة في الوعي العام عن مونيه، وهي الصورة التي يسعى معرض مونيه والبندقية Monet and Venice إلى توسيعها، عبر إبراز المدينة الإيطالية بوصفها فصلاً خفيًّا، لكنه حاسم، في تطور تجربته المتأخرة.
Brooklyn Museum
لذلك يُعد اختيار التركيز على مونيه ولوحات البندقية، برغم ضيق الموضوع ظاهريًا، رهانًا محسوبًا بعناية. فهذه الأعمال تمثل جزءًا صغيرًا من نتاجه الغزير، وتعد من محطات مسيرته الأقل شهرة. كما أن نيويورك لم تستضف منذ أكثر من 25 عامًا معرضًا بهذا الحجم مكرّسًا لمونيه. ومع ذلك يكشف عمق المعالجة البصرية في هذه اللوحات أن هذا الفصل الهامشي ظاهريًا يحمل في طياته مفتاحًا مغايرًا لقراءة مسيرته بأكملها.
ومن هنا تنطلق الفرضية الأجرأ التي يطرحها المعرض: لو لم يعش مونيه تجربة البندقية، بكل ما حملته من ضباب خفيف فوق القنوات، وانكسارات مضطربة للضوء على الماء، وتماثل معماري يذوب في الانعكاسات، لربما لم يبلغ أقصى طاقته الإبداعية. تلك الطاقة التي تتجلّى اليوم في سلسلة زنابق الماء التي تملأ قاعة كاملة في متحف الفن الحديث MoMA في مانهاتن، وتُقرأ بوصفها ذروة مشروعه الفني.







