لمعرض الهند للفنون India Art Fair علاقة طويلة بالفنون في الهند وفي منطقة جنوب آسيا، وهذا ما تأكد أخيرًا في الدورة الخامسة عشرة من المعرض التي وطّدت أواصر هذه العلاقة وأظهرتها في إطار أكثر جرأة وشمولاً. أُقيم الحدث في أرض المعارض التابعة للهيئة الوطنية للصناعات الصغيرة NSIC في نيودلهي، وسجّل مشاركة 109 عارضين، منهم 72 صالة فنية و23 مؤسسة فنية و7 استوديوهات تصميم تشارك للمرة الأولى في المعرض الذي تضمن أيضًا قسمًا للتصاميم الجديرة بالجمع. 

تُدير جايا أسوكان هذا المعرض بشغف كبير يمكن تبيّنه من حديثها عن جودة المعروضات الفنية، إذ تقول: "لا يُعد هذا الحدث معرضًا تجاريًا سنويًا فحسب، بل إنه يشكل أيضًا قبلة للفنون والثقافة في جنوب آسيا، ويتيح لهواة الجمع من مختلف أنحاء العالم مقابلة المواهب الإقليمية، بقدر ما يوفّر للفنانين والمبدعين والعارفين بالفن المنحدرين من مناطق متفرقة في الهند فرصة الاجتماع للتداول".

وفي الحديث عن الدور المحوري الذي يضطلع به المعرض على مستوى تمكين المواهب الإقليمية الناشئة عبر توفير منصة لعرض أعمالهم، تقول أسوكان: "يقع الفن والفنانون في صميم كل ما نحققه، ولذلك أطلقنا العديد من المبادرات التي تتوخى إتاحة منصة عرض عالمية أمام المواهب الشابة، مثل مبادرة 'يولد المستقبل من الفن' الخاصة بالتكليفات الفنية".

الوقت والموسيقا

في دورة هذا العام، تنوعت الأعمال المشاركة بين فنون الأداء والمنحوتات المتجمدة. وبفضل المجموعة المذهلة من الأعمال الفنية التي اتخذت أشكالاً كثيرة، استطاع الزوار استكشاف أفضل إبداعات المنطقة والعالم على السواء. في أحد أطراف المعرض، انتصبت منحوتة من الفولاذ بطول 16 قدمًا، تُصوّر آلة مريندانغام.

ابتكر باريش مايتي، وهو أحد أكثر الفنانين المعاصرين إنتاجًا في الهند، هذه الآلة الموسيقية الهندية القديمة، وتوخى أن تكون تعبيرًا عن حبه للموسيقا، مؤكدًا من خلالها الاعتقاد القديم بألا شيء يَعبر الحدود ويجمع العالم مثل الفن والموسيقا.

وعلى بعد خطوات قليلة من هذه المنحوتة، انتصب تمثال جليدي أحمر ساطع بعنوان Provenance، يُحاكي الشكل الثلاثي المثلث لواجهة المعرض. استخدم الفنانان دويْل ونيل مواد سريعة الزوال مثل الجليد لتسليط الضوء على الطبيعة المؤقتة لخيام المعرض مقابل ديمومة القطع الفنية بداخلها. بذوبان الجليد على مرّ أيام المعرض الأربعة، سلّط هذا العمل التركيبي الضوء أيضًا على انقضاء الزمن في حياتنا اليومية.

الفنان الصيني آي ويوي يعيد ابتكار لوحة مونيه "زنابق الماء" في عمل يمتد بطول 13 مترًا.

Art India
الفنان الصيني آي ويوي يعيد ابتكار لوحة مونيه "زنابق الماء" في عمل يمتد بطول 13 مترًا.

حكايا الأسر والاستعمار

اشتمل المعرض أيضًا على عمل تركيبي غامر متمايز بعنوان "أنتومبرا" Antumbra، من ابتكار جيتيش كالات، أحد أبرز الفنانين في جنوب آسيا، وقد استوحى فكرة العمل من حياة رئيس جنوب إفريقيا نيلسون مانديلا. صمم كالات هذا العمل التركيبي بالاعتماد على روزنامات المكتب التي وثّقت الفترة التي قضاها مانديلا خلف القضبان، وذلك على نحو غمر الضيوف وسط الشاشات الضبابية والأرقام والقراءات، كما دعاهم إلى التأمل.

وفي جناح "تشاولا آرت غاليري" Chawla Art Gallery، الذي يعد من صالات الهند الرائدة، عُلّقت لوحة مائية مذهلة من توقيع إم في دوراندار، الرسام الهندي وفنان البطاقات البريدية الذي عايش حقبة الاستعمار البريطاني.

تصوّر هذه اللوحة المرأة الهندية وهي ترتدي الزي الكلاسيكي، وقد كانت محط أنظار الزوار، ليس لأنها لم تكن متاحة للبيع فحسب، ولكن بسبب الطابع الواقعي الذي تَمثّل فيها أيضًا من خلال لغة الجسد، وهو أمر نادر في مجمل الفن الهندي.

استخدم الفنانان دويْل ونيل في منحوتة Provenance الجليد سريع الذوبان لتسليط الضوء على انقضاء الزمن في حياتنا اليومية.

Art India
استخدم الفنانان دويْل ونيل في منحوتة Provenance الجليد سريع الذوبان لتسليط الضوء على انقضاء الزمن في حياتنا اليومية.

تلاقح ثقافي 

لم تكن إبداعات جنوب آسيا وحدها التي نالت الاحتفاء في المعرض. فقد أحدث عمل الفنان والناشط الصيني الشهير آي ويوي الذي حمل عنوان "زنابق الماء" ضجة في أرجاء المكان. امتد هذا العمل على طول 13 مترًا في جناح صالة "نويْغيريمشنايدر غاليري" Neugerriemschneider Gallery القائمة في برلين، وفيه أعاد ويوي تمثيل لوحة كلود مونيه التي تحمل الاسم نفسه باستخدام 620 ألف قطعة ليغو صينية (ووما Woma).

بالإضافة إلى ذلك، أثارت صالة "برونو آرت غاليري" Bruno Art Gallery الشهيرة عالميًا اهتمام الضيوف بعرضها للمطبوعات الحريرية التي رسمها الفنان الأمريكي آندي وارهول للزعيم الصيني ماو تسي تونغ والممثلة الأمريكية مارلين مونرو. أما المشاركة الأولى لصالة "كاربنترز ووركشوب غاليري" Carpenters Workshop Gallery، الرائدة في ميدان القطع الجديرة بالجمع والقطع الفنية الوظيفية، فميزها الحضور اللافت لنافورة كارل لاغرفيلد Untitled XIII Fountain Arabescato.

منحوتة من البرونز المطلي للفنان رافيندر ريدي.

Art India © Gallerie Nvyā
منحوتة من البرونز المطلي للفنان رافيندر ريدي.


نُحتت هذه النافورة من الرخام الفاخر المستخرج من جبال أبوان الألبية، ويستحضر لونها الأبيض التراث الثقافي العريق للهند وارتباطه الوثيق بمحاجر الرخام، على ما يشهد خصوصًا ضريح تاج محل الشهير.

وفي هذا يقول ناكول ديف تشاولا، مدير تشاولا آرت غاليري: "تسعى المعارض الفنية في المقام الأول إلى إرساء أسس التلاقح الثقافي، وقد رسخ معرض الهند للفنون مكانته بوصفه حامل شعلة هذا التلاقح في شبه القارة الهندية". عبّر تشاولا أيضًا عن سعادته بالمشاركة الكبيرة من خارج المنطقة، فقال: "تمثل المشاركة الواسعة للعارضين المحليين والدوليين فرصة مثيرة للاهتمام بالنسبة لمالكي الصالات الفنية وهواة الفن على حد سواء".

منحوتة للفنان باريش مايتي تستنسخ الآلة الموسيقية الهندية القديمة المعروفة باسم Mrindangam.

Art India
منحوتة للفنان باريش مايتي تستنسخ الآلة الموسيقية الهندية القديمة المعروفة باسم Mrindangam.

سوق فني مزدهر 

عرف المعرض بيع العديد من القطع بأسعار مختلفة، وقد اشتراها هواة الجمع المتمرّسون وكذلك جيل الألفية المستجد في سوق الفن والذي يُتوقع أن يكون له دور مؤثر مستقبلاً. ومع ذلك، لا بد من الوقوف عند بعض الأعمال التي بيعت بأسعار باهظة، مثل مجموعة أعمال آي ويوي التي باعتها صالة "غاليريا كونتينوا" Galleria Continua مقابل 1.18 مليون درهم إماراتي تقريبًا، وأحد أعمال الفنان ناري وارد التي بيعت مقابل نحو 1.45 مليون درهم إماراتي، إضافة إلى أعمال الفنانة إيفا جوسبين التي تراوح سعر بيعها بين 218,000 درهم إماراتي و336,000 درهم إماراتي.

كذلك نجحت صالة كاربنترز ووركشوب غاليري في بيع طاولة Coffee Table Tree التي تحمل توقيع ناتشو كاربونيل مقابل 1.38 مليون درهم إماراتي، فيما تجاوز إجمالي مبيعات هذه الصالة 6 ملايين درهم إماراتي. وأما صالة "فاديهرا آرت غاليري" Vadehra Art Gallery التي تتخذ من دلهي مقرًا لها، فقد استطاعت بيع عمل ضخم بعنوان Falling Bird بتوقيع الفنان الحداثي طيب ميهتا إلى مجموعة مؤسسية وازنة بسعر يوافق نتائج المزاد، والتي يزيد تقديرها حاليًا على 6.6 مليون درهم إماراتي.

عمل تركيبي صنعه سكارما سونام تاشي وفيليب فرانك من المواد معادة التدوير لمحاكاة قمم لاداخ الجبلية.

Art India
عمل تركيبي صنعه سكارما سونام تاشي وفيليب فرانك من المواد معادة التدوير لمحاكاة قمم لاداخ الجبلية.

فن من أجل الاستدامة

نظرًا لأن عالمنا اليوم يعاني على مختلف الجبهات الهشاشة البيئية، فمن المشجع أن يرتقي المعرض في سلم الفن مثلما يرتقي في التزامه بأعلى معايير الاستدامة. ويكفي شاهدًا على ذلك أن المعرض أعاد استخدام الأرضيات والجدران القديمة، كما استخدم المواد القابلة للتحلل عضويًا لتقديم الأطعمة والورق المعاد تدويره بالكامل في مواد الطباعة.

بيد أن التزامه المستمر تجاه البيئة ينعكس بصورة أفضل في جناح المشاريع الفنية الخارجية لهذا العام. ويبرز بين هذه المشاريع عمل تركيبي مهيب يحاكي قمم لاداخ الجبلية، مصنوع بالكامل من مواد معاد تدويرها ويحمل توقيع الفنانين سكارما سونام تاشي وفيليب فرانك اللذين قدما رؤية تأملية عن الأرض في لاداخ والعالم.

تستحضر نافورة كارل لاغرفليد المصنوعة من الرخام المستخرج من جبال أبوان تراث الهند الثقافي.

Art India © Carpenters Workshop Gallery
تستحضر نافورة كارل لاغرفليد المصنوعة من الرخام المستخرج من جبال أبوان تراث الهند الثقافي.


كذلك أثار عمل الفنان الأيرلندي جون جيرارد التفكير في موضوع البيئة. فقد جسد هذا المشروع الرقمي المقتطف من مجموعة متحف مقاطعة لوس أنجليس للفنون تاريخ استهلاك النفط باستخدام سارية يتصاعد منها الدخان الأسود بلا توقف، مشيرًا بذلك إلى ضرورة اقتراح علم جديد لعالم يرزح تحت تهديد التغيرات المناخية. إلى ذلك، صمم الفنانان الرائدان ثوكرال وتاغرا واجهة المعرض التي تعد أكبر لوحة قماشية في دلهي.

وللتأكد من كتابة فصل جديد في حياة هذه الواجهة، كلفت الإدارة "شامار استوديو" Chamar Studio بتحويلها إلى حقائب حصرية جديرة بالجمع. وفي هذا تقول أسوكان: "في العام الماضي، غمرنا الفخر لأن نسبة النفايات التي تمخضت عن المعرض بلغت صفرًا، أي أن المكبّات لم تستقبل أيًا من نفاياتنا". لا شك في أن هذا ليس بالإنجاز الهين لمعرض بهذا الحجم، على ما يرى كثيرون.