تُعد الفنون والثقافة من أهم مكونات الحضارة. وفي إطار السعي لتعزيز هذه القيم، يتألق معرض بينالي الدرعية للفن المعاصر في عام 2024 بوصفه حدثًا عالميًا يحتفي بالمشهد الفني في المملكة العربية السعودية، فيما يتجلى منصة لحوار إبداعي تتكرس من خلاله مكانة المملكة وجهة عالمية رئيسة للفن والفنانين.  وفي عام 2024، ترفع الدورة الثانية من بينالي الدرعية شعار "ما بعد الغَيث"، في إشارة إلى أهمية الماء من حيث كونه عنصرًا أساسيًا لمختلف أشكال الحياة على كوكبنا. 

تنعقد الدورة الخاصة بعام 2024 من بينالي الدرعية للفن المعاصر، والتي انطلقت في 20 فبراير وتستمر حتى الرابع والعشرين من شهر مايو المقبل، في منطقة جاكس بالدرعية، التي تقع على الحدود الغربية للعاصمة الرياض، وتحديدًا في محيط حي الطريف المدرج على قائمة اليونسكو لمواقع التراث العالمي، ما يجعله حاضنة مثالية للفنون التي يقدمها المعرض.

وقد تولى تنسيق أحداث هذه الدورة فريق ترأسه القيّمة العالمية أوتي ميتا باور، ويضم أيضًا من السعودية وجدان رضا إلى جانب إراهول غوديبودي من الهند، وروز ليجون من المملكة المتحدة، وأنكا روجويو من رومانيا. أما الفنانون المشاركون، فبلغ عددهم 92 فنانًا وفنانة من حول العالم، تتنوع اختصاصاتهم الفنية بين الرسم والنحت والفن التشكيلي، فضلاً عن الأداء والتمثيل، والتصوير الفوتوغرافي والوسائط المتعددة والأفلام.

يشارك أيضًا في بينالي الدرعية لهذا العام كتاب فنيون وشعراء، ومعماريون ومخططون حضريون، وكذلك مبدعون يدمجون الطهي في فنونهم. 

وفي النسخة الثانية من المعرض، دعمت مؤسسة بينالي الدرعية 47 عملاً إبداعيًا جديدًا لفنانين مثل جمانة إميل عبود، وسارة عبده، ومحمد الفرج، وأزرا أكشاميا، وطارق عطوي، وراشابورن شوتشوي، وفيكرام ديفيشا، وكريستين فينزل، وآن هولتروب، وأرمين لينكه، وأحمد ماطر، وكميل زكريا. 

غني عن القول إن تنوع الممارسات التي يتبناها هؤلاء الفنانون الذين ينتمون إلى خلفيات ثقافية متمايزة جعل من البينالي بيئة خصبة لاستدراج الزوار إلى تجربة غامرة يستكشفون من خلال الأعمال المعروض فيها مقاربة المبدعين لتاريخ المنطقة وأهمية الحفاظ على استمرارية الذاكرة الإنسانية فيها وإبراز بيئتها العمرانية. فبينالي الدرعية ليس هيكلاً ثابتًا، بل مساحة حيوية مشرعة على المناقشة والعروض والتجارب التفاعلية والممارسات التي تشمل السكن والحراثة والحصاد وغير ذلك. 

وفي هذا قالت أوتي ميتا باور، المديرة الفنية لبينالي الدرعية، إن هذا المعرض، الذي يقدم الدعم لفنانين لم يأخذوا فرصتهم من قبل، يقوم على فكرة متمايزة ترتكز إلى ثلاثة أركان رئيسة هي الماء والطعام والمأوى، وكلها عناصر بالغة الأهمية اليوم في ظل ما يشهده العالم من أحداث وتحديات. وقد يكون هذا ما يبرر ترتيب أقسام معرض "ما بعد الغيث" المستلهمة من الطبيعة وفقًا لموضوعات الماء والأرض والزمان والمكان، ولمفاهيم تشمل البحث والاستكشاف والقصص والسرديات التاريخية والمعرفة بالمواد والذكاء الروحي. 

عمل بعنوان Acre Palafita with Infrastructure  من ماريتيكا بوتريتش، يتخذ شكل منزل قائم على ركائز ويضيء على المخاوف حول المناخ والتساؤلات حول إمكانية تعايش الهندسة المعمارية والطبيعة.

Marco Cappelletti
عمل بعنوان Acre Palafita with Infrastructure من ماريتيكا بوتريتش، يتخذ شكل منزل قائم على ركائز ويضيء على المخاوف حول المناخ والتساؤلات حول إمكانية تعايش الهندسة المعمارية والطبيعة.

القصص والسرديات التاريخية

تبدأ زيارة معرض بينالي الدرعية في قسم مخصص لفنون الأداء، والصوتيات، والأعمال السينمائية الفنية، في إيحاء إلى أن الحياة نفسها تشكل أداءً فنيًا مستمرًا. فالأداء الاستعراضي، الذي يشبه التمثيل المسرحي، يُعد جزءًا لا يتجزأ من تفاعلاتنا الاجتماعية والسياسية. لذا كان الأداء المسرحي عاملاً رئيسًا في مسار اختيار الأعمال المعروضة ورواة القصص والأبطال والممثلين.

هنا تظهر العلاقة التفاعلية بين "الصندوق الأسود"، وهو السينما المصغرة، و"الدائرة البيضاء". يقدم الصندوق أفلامًا فنية وعروض أداء طيلة مدة البينالي، فيما تحتضن "الدائرة البيضاء" والمناطق المحيطة بها أعمالاً مخصصة للعرض على المسرح، مثل عروض السيرك، والكوميديا المسرحية، والروحانيات. ويُسلط هذا القسم الفني الضوء على دور المُشاهد في استكشاف القصص التي تعرضها الأعمال الفنية وعلى تفاعله معها.

الماء والمأوى

خُصص هذا القسم للاحتفاء بأهمية الماء في كوكبنا بوصفه موردًا لا يمكن الاستغناء عنه. وفيما تحض هذه الواحة الزوار على حماية أنظمتنا البيئية المتنوعة، تلفت الأعمال المعروضة فيها إما إلى التفاوت في وفرة المياه النظيفة، سواء في المناطق الحضرية أو الريفية، وإما إلى قدرة هذه المياه على الشفاء واستعادة مظاهر الحياة. فكل إبداع هنا يكشف عن ارتباطه الوثيق بالماء والأرض والطبيعة، على ما يشهد مثلاً عمل بعنوان "رائحة الغيث في المدينة" للفنانة أناييس توندور التي تستفيد من خصائص الروائح بوصفها أدوات للبحث الأنثروبولوجي

متاهة Logoligi Logarithm التي شكلها النحات الغاني إل أناتسوي من نحو 65 قطعة فردية من أسلاك النحاس والألمنيوم.

Alessandro Brasile
متاهة Logoligi Logarithm التي شكلها النحات الغاني إل أناتسوي من نحو 65 قطعة فردية من أسلاك النحاس والألمنيوم.


فقد نشأ هذا العمل عن دراستها لتأثير رائحة التربة الندية بعد المطر، إذ تعاونت مع عالم الأنثروبولوجيا جيرمان موليمانز وسكان باريس لمراقبة العمليات الطبيعية التي تحدث في تصدعات أرصفة المدينة. خلال رحلات مشي جماعية في أرجاء باريس والمناطق المجاورة، قام المشاركون بجمع عينات من التربة جرى تقطيرها لاحقًا باستخدام تقنيات التقطير المائي التقليدية.

وفي بينالي الدرعية، تظهر نتائج التقطير المائي في قوارير معلقة، فيما تحثنا الأبعاد المجازية للعمل على التأمل في السماء والأرض، ليس بوصفهما كيانين منفصلين بل كيانين يمكن أن يتلاقيا ويتناغما ضمن وحدة حياتية واحدة.

يرمز التقطير في مختبر دارماوان إلى الطمع في استخراج الموارد الطبيعية، والذي أثار النزاعات الاستعمارية لعدّة قرون، فيما تزيّن الخلفية صور لكريستين فنزل توثّق مجموعة شابات يمثلن فترة انتقالية وتغييرات اجتماعية.

Marco Cappelletti
يرمز التقطير في مختبر دارماوان إلى الطمع في استخراج الموارد الطبيعية، والذي أثار النزاعات الاستعمارية لعدّة قرون، فيما تزيّن الخلفية صور لكريستين فنزل توثّق مجموعة شابات يمثلن فترة انتقالية وتغييرات اجتماعية.

المعرفة بالمواد والذكاء الروحي 

يستكشف الفنانون في هذا القسم مواد طبيعية مختلفة، إذ تركز أعمالهم المعروضة فيه على استخدام مواد مثل العرعر، والمطاط، والتوت، والكافور، وطلاء اللَك، والمنسوجات المصبوغة بمواد عضوية. ومن خلال مجموعة متنوعة من وسائط التعبير الفني، يضيء الفنانون على التاريخ المعقد - وغالبًا العنيف – للاتجار بهذه المواد الطبيعية.

عمل تركيبي لرشيد أرائين بعنوان Cube as Sculpture (المكعب بوصفه منحوتة)، وفي الخلف تبدو أعمال بتوقيع حسن شريف ولالا روخ.

Marco Cappelletti
عمل تركيبي لرشيد أرائين بعنوان Cube as Sculpture (المكعب بوصفه منحوتة)، وفي الخلف تبدو أعمال بتوقيع حسن شريف ولالا روخ.


وفيما تبرز هذه الأعمال مظاهر الذكاء في عالم الطبيعة، وأهمية النباتات والحيوانات من الناحية الثقافية، مع التأكيد على دورها البيئي والاقتصادي والروحاني، تُذكرنا هذه القاعة بأهمية المعرفة والحرف التقليدية، وتكشف عن الطبقات الثرية والمتنوعة التي شكلت تراثنا الثقافي، وكيف أن كل طبقة فيها تعكس عصرها. يظهر هنا أيضًا تأثير الفن في تحويل التجارب الصعبة إلى مشاعر نتفاعل معها. 

سارة عبده تلتقط التفاعل بين العالمين الداخلي والخارجي في عملها الذي يحمل عنوان "بعد أن فقدتك في أحلامي، أين نلتقي؟"

Marco Cappelletti
سارة عبده تلتقط التفاعل بين العالمين الداخلي والخارجي في عملها الذي يحمل عنوان "بعد أن فقدتك في أحلامي، أين نلتقي؟"

الزمان والمكان 

تقدم الأعمال المعروضة هنا منظورًا نقديًا لبيئتنا العمرانية والحضرية. على سبيل المثال، ثمة لوحات مرسومة بغبار الجرافيت، تركز على تفكيك جماليات العمارة الخمومية، وتطرح تساؤلات عن دور التراث وعمليات حفظ الآثار في كتابة التاريخ. كما تحتوي القاعة على مكتبة مفتوحة تدعونا للتفاعل على نطاق واسع مع الموضوعات التي يتناولها بينالي "ما بعد الغيث".  

ومن الفنانات المشاركات في هذه القاعة سهر شاه في مذكرات "من مدينة غير معروفة"، وهي مجموعة من اثنتين وثلاثين طبعة فنية على الورق، تعتمد على ملاحظات من نيودلهي. فمن خلال تدوينات شعرية صيغت إلى جانب الأشكال المعمارية، يكشف هذا العمل تفاصيل المدينة من خلال مواقع الشقوق والتعقيد والتناقض. فشاه تسعى في مقاربتها الإبداعية إلى ربط الأحداث المعمارية والسياسية والتاريخية بالتجارب الشخصية.

وسط الإضاءة المظلمة، تتوهّج منحوتات علياء فريد مستحضرة مفهوم "السبيل"، وماء زمزم المقدس.

Marco Cappelletti
وسط الإضاءة المظلمة، تتوهّج منحوتات علياء فريد مستحضرة مفهوم "السبيل"، وماء زمزم المقدس.


وفي صميم عملها الذي كُتب بين عامي 2014 و2021، تطرح سؤالاً مهمًا عن المنزل والانتماء من خلال آثار أولئك الذين جاءوا قبلها. وقد لخصت الفنانة تجربتها في هذا العمل الفني قائلة: "على مدى العقد الماضي، ربطتني الكتابة والتجريد المعماري بالمدينة التي عشت فيها (نيودلهي) من خلال فن الطباعة.

جُمعت الكتابات على مدى بضع سنوات في العاصمة، وقد انبثقت عن الحاجة لمشاركة الكلمات من خلال حميمية الورق. إنها سجل للزمن من خلال الكواكب التي تركت رواسبها أو تلك الأصوات التي أعدها عزيزة علي. ومع مرور الوقت، تحول التصوير وفن الطباعة من خلال اللغة والتجريد إلى تعبير عن العلاقات بين المدينة والذات". 

عمل للفنانة سامية زارو بعنوان Life is a Woven Carpet (الحياة سجادة محيكة).

Marco Cappelletti
عمل للفنانة سامية زارو بعنوان Life is a Woven Carpet (الحياة سجادة محيكة).

فعاليات وأنشطة

يسهم بينالي الدرعية في تحقيق تطلعات المجتمع المحلي وتوثيق هويته الثقافية فيما يعزز تفاعله المباشر مع المشهد الفني والفنانين. بل إن الفرصة ستتاح للزوار لاختبار تجارب غنية من خلال مجموعة من الفعاليات والأنشطة المصاحبة. ويشمل ذلك ورش العمل الفنية، والجولات الموجهة، والعروض الموسيقية والصوتية الحية، بالإضافة إلى المحاضرات والندوات، فضلاً عن المعارض الأدبية والعروض الفلكلورية.

وتكتمل التجربة في منطقة السوق التي تتيح الفرصة لاقتناء أعمال فنية متفردة. كذلك، يمكن للضيوف أيضًا استكشاف "حديقة الحكمة"، المنصة الرقمية التي تلقي الضوء على مختلف المواضيع التي تتناولها الأعمال المعروضة، وذلك إما على هواتفهم الذكية، أو في القسم المخصص لها في فضاء المعرض.