فيما تشهد فضاءات الفن في العالم العربي ازدهارا متناميا، يرى الجامعون المحليون في اقتناء الأعمال الفنية فرصة لإمتاع ذائقتهم أو لتحقيق مكاسب استثمارية.

 

إذا كنا لنأخذ بتسلسل ماسلو الهرمي للاحتياجات، فإننا قد نقول إن العالم العربي يعيش حقبة ازدهار. غني عن القول إن السعي إلى تلبية الاحتياجات التي تحتل أعلى الهرم، على غرار جمع الأعمال الفنية، لا يتحقق إلا بعد إشباع الاحتياجات الأساسية. لكن أن تشرع منطقة بأكملها في تحويل اهتمامها إلى الفنون، فذلك يعني أن أمورها بخير.

 

فضاء فني رحب

تبرز دبي في عين هذه العاصفة على ما تشهد في المدينة من طفرة في صالات الفنون، ودور المزادات، والمعارض الفنية، والدائرة المتنامية لجامعي الأعمال الفنية، والمؤسسات الفنية التي لا تتوخى الربح، وما شابه ذلك من مظاهر توثّق حضورها على الساحة الفنية العالمية والعربية في آن. نظمت دار كريستيز للفنون أول مزاد عالمي لها في دبي في شهر مايو أيار من عام 2006، ثم توالت أنشطتها على مدى 28 موسمًا قدّمت الدار خلالها أكثر من 600 فنان من منطقة الشرق الأوسط لجماهير الفن في مختلف أنحاء العالم، وحققت ما يزيد على 450 رقمًا قياسيًا للبيع في المزاد. يشهد على هذا الزخم أيضًا نشاط دار سوذبيز التي اقتحمت سوق دبي سنة 2017 وحققت في آخر مزاد نظمته في المدينة عائدات بلغت قيمتها 3.6 مليون دولار.

كرس متحف اللوفر أبو ظبي حضور العاصمة الإماراتية على خارطة كبرى المؤسسات الفنية في العالم.

كرس متحف اللوفر أبو ظبي حضور العاصمة الإماراتية على خارطة كبرى المؤسسات الفنية في العالم.


فضلاً عن ذلك، شكلت انطلاقة معرض آرت دبي سنة 2006 لحظة مفصلية للمشهد الفني في المنطقة. وفي دورة هذا العالم، سجل المعرض، الذي يُعد جوهرة التاج في تقويم الأنشطة الفنية في العالم العربي، مشاركة 51 صالة عرض من 31 دولة مختلفة. أما المؤسسات غير الربحية التي تُعنى بالفنون، فيتصدرها مركز جميل للفنون، أحدث متحف للفن المعاصر في دبي. استقطبت معارض المتحف، وأنشطته، وورش الأعمال التي ينظمها، سواء في مبنى المركز أو في حديقة الفنون التابعة له، والمتاحة مجانًا، مجموعات غفيرة من الزوار المحليين والسائحين. وإذا ما أخذنا في الحسبان المراكز الثقافية والفنية العملاقة، على غرار جادة السركال، أو المؤسسات الخاصة مثل مؤسسة جان -بول نجار، ومركز تشكيل، ومؤسسة أتاسي، فإننا سنرى في ذلك ما يكفي من الشواهد على مشهد فني يزداد اتساعًا وتنوعًا.

 

«الدراويش» لوحة من عام 1929 للرسام المصري محمود سعيد الذي اضطلع بدور ريادي في بناء الفن التشكيلي الحديث بمصر. دخلت اللوحة مزاد كريستيز دبي في شهر أكتوبر تشرين الأول سنة 2010 وبيعت آنذاك بمبلغ 2,546,000 دولار.

«الدراويش» لوحة من عام 1929 للرسام المصري محمود سعيد الذي اضطلع بدور ريادي في بناء الفن التشكيلي الحديث بمصر. دخلت اللوحة مزاد كريستيز دبي في شهر أكتوبر تشرين الأول سنة 2010 وبيعت آنذاك بمبلغ 2,546,000 دولار.


أما إمارة الشارقة، فكرّست حضورها معقلاً للفنون الجميلة منذ زمن بعيد، واستحقت تعيينها من قبل اليونسكو منذ عام 1998، عاصمة ثقافية للعالم العربي. ففي هذه الإمارة التي تحتشد فيها صالات فنية ومتاحف كثيرة، تحوّل معرض بينالي الشارقة منذ إطلاقه سنة 1993 إلى أداة رئيسة لمناصرة قضية الفن المعاصر في الشرق الأوسط على الساحتين الإقليمية والدولية. تنشط أيضًا في الشارقة مؤسسة بارجيل للفنون التي تُعنى بالترويج للفنون العربية العصرية والحديثة، وتعرض أعمالاً وفيرة من مجموعتها في متحف الشارقة للفنون.


ولا تُستثنى أبو ظبي من هذا الزخم، لا سيّما بعد أن تسلطت الأضواء على مشهد الفنون فيها مع افتتاح متحف اللوفر الذي سجل في سنته الأولى نحو مليون زائر وحقق بداية حقبة جديدة للعاصمة. ومن المتوقع أن ترفع أبو ظبي سقف التوقعات مجددًا عندما تفتتح متحف غوغنهايم في منطقة السعديات الثقافية حيث متحف اللوفر.

"على مدى سنوات عدة، لم يحظَ الفنانون العرب بالتقدير الذي يستحقونه. لكن ما إن انطلق معرض آرت دبي، ووجدت دار المزادات موطئ قدم لها هنا، حتى صار للفن العربي سوق تعاظم الاهتمام العالمي به"


لكن اتساع دائرة المشهد الفني في العالم العربي لا يقتصر على هذه الثلاثية الإماراتية. فإليها تُضاف اليوم محافظة العلا السعودية المدرجة على قائمة التراث العالمي لليونسكو والتي كرست موقعها من حيث كونها معقلاً للفنون من خلال معرض Desert X AlUla الصحراوي الذي تميزت انطلاقته العام الفائت بمشاركة 14 فنانًا عرضوا أعمالهم التركيبية في قلب الصحراء. يأتي هذا المعرض ليكمل المشهد الفني في المملكة العربية السعودية، حيث ينشط مركز الملك عبر العزيز الثقافي العالمي، الشهير بمركز إثراء في الظهران، ومعهد مسك للفنون، المؤسسة غير الربحية الكائنة في الرياض والتي تُعنى بدعم المواهب الفنية السعودية.


كما لا ينبغي التغاضي عن الحضور اللافت للمملكة المغربية التي تُعد منارة عريقة للفنون ومدخلاً إلى الفن الإفريقي، لا سيما من خلال متحف المعدن للفن الإفريقي المعاصر في مراكش، ومعرض بينالي مراكش الذي يقدم مثالاً آخر عن التراث الحرفي في المدينة.

 

استثمار أم شغف بالفنون؟

تقول أنتونيا كارفر، مديرة مركز جميل للفنون: "اليوم تدرك المتاحف العالمية والمؤسسات الفنية الكبرى حاجتها للالتفات إلى هذه المنطقة. فتجاهل ما يحدث على الساحة الفنية فيها لم يعد خيارًا متاحًا". وتضيف كارفر، التي شغلت من قبل منصب مديرة معرض آرت دبي: "على مدى سنوات عدة، لم يحظَ الفنانون العرب بالتقدير الذي يستحقونه. لكن ما إن انطلق معرض آرت دبي، ووجدت دار المزادات موطئ قدم لها هنا، حتى صار للفن العربي سوق تعاظم الاهتمام العالمي به".

 

 

لوحة Horses in The Afternoon للرسامة فاطمة نادية ِرحمان

Vikram Suri
لوحة Horses in The Afternoon للرسامة فاطمة نادية ِرحمان 

تشكل اليوم حصة هذا السوق الفني الناشئ نحو 2% من السوق العالمي، لكن ذلك يعني أيضًا أنه سوق قابل للنمو، ويبشّر بحقبة مزدهرة للمنطقة. هذا ما يراه أيضًا إدوارد غيبز، رئيس مجلس إدارة سوذبيز في الشرق الأوسط والهند. يقول غيبز: "تطور السوق هنا على مر العقود الأخيرة ليكتسب طابعًا عالميًا. وبالرغم من أن كثيرين قد يصنفونه إلى يومنا هذا سوقًا ناشئًا، إلا أنه يتميز بحضور لافت لجامعين جادين يبحثون عن أعمال فنية متميزة بجودة مقتنيات المتاحف، والمستقبل يبدو واعدًا".


فيما يزداد اهتمام الأفراد في المنطقة بالفنون، وتستمر أسعار الأعمال الفنية في الارتفاع (2.7 مليون دولار مقابل لوحة لفخر النساء زيد، و2.5 مليون دولار لقاء عمل لمحمود سعيد)، يرتبط اقتناء الفنون عند كثيرين بقيمتها المالية وليس بقيمتها الفنية فحسب، الأمر الذي يغذي الجدل حول مقاربة الفن من حيث كونه استثمارًا بهدف الربح.

 لوحة أخرى للفنانة فاطمة نادية ِرحمان بعنوان Sunlight in G

 لوحة أخرى للفنانة فاطمة نادية ِرحمان بعنوان
Sunlight in G


تلقي الضوء على هذه المسألة كارولين لوكا – كيكرلاند، التي عملت مستشاراً عاماً للثقافة في هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة لتسع سنوات، فتولت من خلال موقعها الإشراف على علاقة حكومة أبو ظبي بشركائها من المتاحف العالمية، وتأسيس لجنة الاستحواذ على المجموعات الفنية للحكومة، والمساهمة في تنظيم تسع دورات من معرض فن أبو ظبي. تشغل لوكا- كيكرلاند اليوم منصب المدير العام لدار كريستيز دبي، وفيما تسارع إلى الربط بين الجانبين المالي والعاطفي في سياق ابتياع أي عمل فني، تقول: "في دار كريستيز، ننصح زبائننا بابتياع ما يحبونه من الأعمال الفنية وعدم النظر إلى الفنون بوصفها استثمارًا. لا شك في أن لكل عمل فني سعرًا، بل هو سعر باهظ في غالب الأحيان. قبل المزايدة، قد يفكر المزايد في العمل الفني من منظور استثماري. لكن ما يدفعه إلى ذلك هو حماسته للعمل."


تتبنى كارفر موقفًا مماثلاً على ما يبدو من قولها: "قد يصح النظر إلى العمل الفني بوصفه استثمارًا، شرط أن تقوم بواجبك، فتستعين بصالة فنية مرموقة، وتمضي ما يكفي من الوقت في المتاحف والمعارض. لكننا ننصح الجامعين دومًا بابتياع أعمال تخاطب وجدانهم وتحفزهم على التفكير في نوايا الفنان، وفي الأفكار التي يناقشها العمل بدلاً من التفكير في العمل من حيث إمكانية ضمه إلى محفظة أصولهم."

"لا يحتكم الاستثمار في الفن إلى منطق محدد. لكن ثمة معايير عامة لا بد من أخذها في الحسبان مثل منشأ العمل الفني، وحالته، وحداثة توافره في السوق، وندرته"


غالبًا ما تُعد خبرة مجموعة يو بي إس المصرفية العملاقة، أكبر جهة في العالم لإدارة الثروات، مرجعًا موثوقًا من منظور جامعي الفنون والمستثمرين فيها حول العالم. وفي موضوع الاستثمار في الفن، يقول علي جانودي، مدير وحدة إدارة الثروات العالمية في المجموعة لمنطقة الشرق الأوسط وإفريقيا: "إن جمع الأعمال الفنية يشكل موضع شغف نتشاركه مع مجموعة عالمية كبيرة من الزبائن. ندرك أن الفنون تشكل أصولاً ذات قيمة عاطفية، فضلاً عن كونها تنطوي في غالب الأحيان على قيمة مالية. لكننا لا ننصح زبائننا بالنظر إلى الفن بوصفه يشكل إحدى فئات الأصول. فالدافع إلى جمع الأعمال الفنية هو الفضول لاستكشاف أفكار جديدة، ورغبة الجامع في أن يخلف وراءه إرثًا، وقبل ذلك كله سعيه لإشباع شغف يحقق له عائدات عاطفية ويثري حياته". يضيف جانودي، الذي يشغل أيضًا منصب نائب رئيس مجلس إدارة يو بي إس في المملكة العربية السعودية: "غالبًا ما ننصح بتبنّي هياكل إدارية مدروسة لضمان الحفاظ على المجموعات الفنية، وتقييمها والتأمين عليها بطريقة سليمة، فضلاً عن وضع خطة توريث مؤاتية للجيل المقبل."


أصول لا تشبه غيرها

في حديث إلى مجلة Robb Report العربية، يكشف سيلفان غايار، مدير أوبرا غاليري، الصالة الفنية التي تُعد أبرز مقصد في دبي للمهتمين بالأعمال الفنية الحديثة والمعاصرة، عن أنه شهد تحوّل العديد من الجامعين إلى مستثمرين، فيما نادرًا ما يحدث العكس. يؤيد غايار هو أيضًا فكرة أن يبتاع المرء أعمالاً تفتنه لأن العائد العاطفي يفوق العائدات المالية كثيرًا. يقول غايار: "إن أي صاحب صالة فنية موثوق سيخبرك بأنه لن يتأتى لك دومًا تحقيق الربح عن طريق استبدال لوحاتك. تذكر أيضًا أن الأعمال الفنية لا تُعد أصولاً سائلة بقدر الأصول التقليدية الأخرى، وقيمتها من حيث كونها ضمانًا للاقتراض أدنى بكثير. يُضاف إلى ذلك أن الأعمال الفنية تشكل أصولاً مادية، لذا احرص عندما تتم صفقات شرائها على توخي الكفاءة الضريبية حيث تُطبق الأنظمة الضريبية". ويضيف غايار: "ثمة تكاليف ترتبط باقتناء الأعمال الفنية غالبًا ما يغفل عنها الأفراد، وتشمل نفقات الشحن، والتأمين، والتخزين، والضرائب المختلفة، وهذه كلها ستنتقص في النهاية من العائد الاستثماري."

لوحة Budapest, The Express between Budapest and Istanbul للفنانة فخر النساء زيد التي تحقق أعمالها في المزادات أسعارا مرتفعة.

لوحة Budapest, The Express between Budapest and Istanbul للفنانة فخر النساء زيد التي تحقق أعمالها في المزادات أسعارا مرتفعة.


يختلف إذاً الاستثمار في الفن عن الاستثمار في فئات الأصول التقليدية، وذلك لأسباب عدة في طليعتها السيولة. فالفن لا يعد من الأصول السائلة، ولا أحد يدرك هذا الواقع بقدر الفنانين الذين ينتجون هذه الأعمال المتفردة. تقول فنانة الخط العربي فاطمة ناديا رحمن، التي انتهى كثير من أعمالها المنشودة إلى المجموعات الخاصة في برج خليفة، والبلاطات الملكية والفنادق الفاخرة في العالم العربي: "إن الفوز بمشروع تفويض يحقق للفنان الرضا، ليس لأنه يعكس رغبة أحدهم في سماع قصة العمل الإبداعي فحسب، ولكن لأنه يشير بوضوح أيضًا إلى شعور صاحب التكليف بأن عددًا أكبر من الأشخاص سيرغبون بمرور الوقت في سماع هذه القصة، الأمر الذي يعني أيضًا تقدير الفنان وأعماله ماليًا. غير أننا ندرك أيضًا أن إبداعاتنا الفنية لا تشكل أصولاً سائلة بقدر غيرها، ونأمل أن يشكل الافتتان بالعمل قوة دافعة أقوى من المكسب المالي المحتمل الذي يرتبط به."


ما يعيب الاستثمار في الفن أيضًا هو أنه يحقق عائدات مالية أدنى تُلحظ عند احتساب درجة المخاطرة المقبولة. لكن غالبًا ما يكون للجامعين الأصغر سنًا، لا سيّما أولئك الذين يستثمرون في الفن المعاصر، توقعات غير منطقية تتجلى الحاجة إلى موازنتها برأسمال ثقافي، ومكانة اجتماعية، ومباهج حسية، أي بالعائدات غير المالية التي قد تجعل الاستثمار في عمل فني عظيم مجزيًا للغاية.


يُضاف إلى ذلك أن للاستثمار في الفن أمدًا طويلاً، وأفقه الزمني قد يمتد في الحد الأدنى عقدًا كاملاً، ما يعني أنه يناسب المستثمر الصبور خصوصًا. كما أن المؤشرات في عالم الفنون تتبع في غالب الأحيان الأعمال الفنية التي تُعرض في المزادات، والتي تشكل أقل من نصف حجم الأعمال في سوق الفن، الأمر الذي لا يوفر صورة شاملة عن واقع الحال.


لكن سواء أكانت الغاية الاقتناء بهدف الجمع أم الاستثمار، يؤكد الخبراء كلهم ضرورة اتخاذ جانب الحذر وتوخي الحرص الواجب عند ابتياع عمل فني، على ما يفعل المرء عادة فيما يخص أصوله الأخرى. فزيارة الصالات الفنية، والمتاحف، والمعارض، حتى استوديوهات الفنانين، لا تساعد على فهم السوق فحسب، بل تتيح للمرء أيضًا فهم مختلف جوانب ذائقته الشخصية، الأمر الذي يسهم في صياغة أسلوبه والمنحى الذي ستتخذه مجموعته في النهاية. بموازاة ذلك، ينبغي للمرء أن يطالع، ويبحث، ويتابع الأرقام القياسية التي تُحققها الأعمال. فضلاً عن ذلك، تحظى أصالة العمل الفني بأهمية بالغة. لذا ينبغي التحقق من مصدر العمل والحصول على الوثائق التي تثبت أصالته. كما ينبغي لك أن تطلب في هذا المجال مساعدة محترفة من خبير يفهم أهدافك ويستطيع مساعدتك على إدارة توقعاتك. ويبقى الأهم من ذلك كله أن تحدد لنفسك ميزانية لا تتجاوزها، وأن تؤمّن على المقتنيات في مجموعتك الفنية وتحرص على صيانتها وفهرستها.

يتمثل أغلى عمل من الشرق الأوسط بيع بمزاد في منحوتة بعنوان »الجدار «أو OH Perspeolis  أبدعها سنة 1975 الفنان الإيراني برويز تنافولي. حققت اللوحة رقما قياسيا إذ بيعت بمبلغ 2,841,000  دولار.

يتمثل أغلى عمل من الشرق الأوسط بيع بمزاد في منحوتة بعنوان «الجدار» أو OH Perspeolis أبدعها سنة 1975 الفنان الإيراني برويز تنافولي. حققت اللوحة رقما قياسيا إذ بيعت بمبلغ 2,841,000 دولار.


يبقى السؤال: إلى أي منطق يحتكم الاستثمار في الفن؟ تقول سوزي سيكورسكي، خبيرة الفنون الشرق أوسطية الحديثة والمعاصرة في دار كريستيز: "لا يحتكم الاستثمار في الفن إلى منطق محدد. لكن ثمة معايير عامة لا بد من أخذها في الحسبان مثل منشأ العمل الفني، وحالته، وحداثة توافره في السوق، وندرته. تشمل العوامل المساعدة أيضًا على اتخاذ قرار الاستثمار في أي عمل فني الأسعار التي حققها من قبل في الصالات والمزادات، وعرض الفنان أعماله في متاحف وطنية وعالمية، وحضور أعماله ضمن مجموعات المتاحف الدائمة". تختم سيكورسكي باقتباس عن الفنان الانطباعي بيار أوغوست رينوار، فتقول: "لا يمكن تحديد قيمة كمية لأي عمل فني إلا عند بيعه في المزاد".


لوحات رمزية ومنحوتات وأعمال تصويرية

لا شك في أن الفن الإفريقي المعاصر بات يحظى أخيرًا باهتمام هواة اقتناء الأعمال الفنية، سواء في السوق العالمية أو في عالمنا العربي على ما يشهد مثلاً التركيز المتزايد في معرض آرت دبي على الفنانين في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. يتجلى أيضًا اهتمام طال انتظاره بالفنانات مع تزايد رغبة الجامعين في اقتناء إبداعات السيدات من أصحاب المواهب في المنطقة، على غرار لمياء قرقاش التي مثلت الإمارات العربية المتحدة في بينالي البندقية سنة 2009. تقول لمياء: "إن خلفيتنا الثقافية والتاريخية تتسم بثراء فني لافت، وقد آن الأوان لتسليط الضوء على المنطقة واستعراض ما تزخر به من مواهب فنية."

"ننصح الجامعين دوما بابتياع أعمال تخاطب وجدانهم وتحفزهم على التفكير في نوايا الفنان، وفي الأفكار التي يناقشها العمل بدلا من التفكير في العمل من حيث إمكانية ضمه إلى محفظة أصولهم"


يبدو أيضًا أن الجامعين قد شرعوا في الآونة الأخيرة يثمنون أعمال الفنانين الناشئين، بسبب أسعارها الأدنى من جهة وبسبب رغبتهم في استكشاف المواهب الخام. بموازاة ذلك، يبدي الجامعون المحليون اهتمامًا متزايدًا بالأعمال النحتية. بل إن أعلى رقم قياسي لعمل فني من الشرق الأوسط بيع في المزاد يعود إلى منحوتة الجدار The Wall (Oh Persepolis) للفنان الإيراني بارفيز تانافولي، التي بيعت مقابل 2.8 مليون دولار.


أما عن أعمال الفنانين غير المحليين التي تحقق نجاحًا في المنطقة، فيقول سيلفان غايار: "فيما يتعلق بإبداعات كبار الرسامين، لا ينقطع اهتمام الجامعين بروائع بيكاسو، ودالي، وماتيس، وشاغال، ورينوار على سبيل الذكر وليس الحصر. ويبدو أن زبائننا يؤثرون الأعمال الرمزية واللوحات التي تصور مناظر طبيعية على الأعمال التجريدية والمبسطة. لذا تراجع الاهتمام بفنانين عظماء أمثال خوان ميرو، ولوتشيو فونتانا، وألكسندر كالدر". وفيما يلفت غايار إلى أن الواقع نفسه ينطبق على الأعمال الفنية من مرحلة ما بعد الحرب، يؤكد أن إبداعات آندي وارهول، وآندريه برازيلييه، وفيرناندو بوتيرو، ومانولو فالديز، تبقى في غالب الأحيان محط اهتمام، مضيفًا: "لا يسعني التعميم، لكن الجامعين في قاعدة زبائننا ينشدون أعمال هؤلاء الفنانين."


وفي عالم المزادات، يقول إدوارد غيبز من دار سوذبيز: "تشهد السوق حماسة لافتة للفنانين الحداثيين من إيران، والعراق، ومصر، وارتفاعًا في أسعار أعمالهم. فعلى سبيل المثال، حققت أعمال محمد سعيد، وحسن حجاج، ومحمود صبري، وإيتل عدنان، وأوغيت كالان، نجاحات باهرة في المزادات الأخيرة. كما نلاحظ اهتمامًا متجددًا بفن المستشرقين، على ما يشهد مثلاً مزادنا الشهير على مجموعة نجد في عام 2019."

 

في مزاد للفن الانطباعي والحديث نظمته دار كريستيز هذا العام في باريس، حققت لوحة »حرس الحدود« للرسام المصري محمد ناجي 25 ألف يورو.

في مزاد للفن الانطباعي والحديث نظمته دار كريستيز هذا العام في باريس، حققت لوحة »حرس الحدود« للرسام المصري محمد ناجي 25 ألف يورو.


لكن اللافت بالقدر نفسه هو الازدهار غير المسبوق في سوق الأعمال التصويرية، الأمر الذي يرده خبراء عدة إلى إدراك الجمهور عنصر الواقعية الذي تتسم به الأعمال التصويرية في حين أنه قد يغيب عن أشكال فنية أخرى مثل النحت. وفي هذا تقول المصوّرة اللبنانية الأمريكية الشهيرة رانيا مطر إن لبنان كانت حتى وقت غير بعيد متأخرة عن الولايات المتحدة الأمريكية أو أوروبا فيما يتعلق بالاعتراف بالتصوير بوصفه فنًا جميلاً. لكن الوضع تغيّر على ما تؤكد مضيفة: "لا شك في أن التصوير قد ساعد على توثيق الاضطرابات واسعة النطاق التي شهدها لبنان، وقد كرس حضوره شكلاً فنيًا يسهل للمتلقي أن يتفاعل معه".

يتصدر مركز جميل للفنون المؤسسات غير الربحية التي تُعنى بالفنون ويُعد أحدث متحف للفن المعاصر في دبي.

Jameel Arts Centre
يتصدر مركز جميل للفنون المؤسسات غير الربحية التي تعنى بالفنون ويعد أحدث متحف للفن المعاصر في دبي.


ما يثير الاهتمام أيضًا هو أن الجامعين من الجيل الشبابي هم الأكثر انجذابًا إلى الأعمال التصويرية على ما يكشف حسن حجاج، الملقب بآندي وارهول المغرب والذي يبدع صورًا ملونة يستعرض من خلالها تراثها المغربي داخل إطارات منتجات استهلاكية مثل قوارير المشروبات الغازية كوكا كولا، وحتى معلبات الزيتون. يقول حجاج، الذي تحظى ابتكاراته باستحسان واسع النطاق: "يقتني جامعو الفنون كلهم أعمالاً تصويرية، لكن الجامعين من الجيل الشبابي هم أكثر من يضم مثل هذه الإبداعات إلى مجموعاتهم." لكنه ينصح أولئك الذين يجمعون الروائع الفنية، بغض النظر عن الفئة العمرية أو الشكل الفني، أن يقتنوا بدافع حب الفن وليس بهدف تحقيق المكسب المالي."


ثمة أيضًا من يجمع الفنون، بغض النظر عن أشكالها، لغايات لا ترتبط بربح مالي أو متعة حسية. تقول سهيلة طقش، أمينة مؤسسة بارجيل للفنون في الشارقة: "إن جمع أعمال فنية من المنطقة وعرضها يشكلان خطوة على طريق الحفاظ على التاريخ والتراث المحليين. كما أننا نشجع الجامعين من الأفراد على تشارك مقتنياتهم الفنية، سواء من خلال موقع إلكتروني، أو مدوّنة شخصية، أو حساب عبر مواقع التواصل الاجتماعي. فمنشوراتهم قد تتحول إلى مصدر معرفي مهم للباحثين، وأمناء المتاحف، وغيرهم من المعنيين في هذا العالم، وتوفّر الرابط المفقود في بحث شخص ما."