ما إن يجيل المرء النظر في أرجاء شقة خافييه بيريز التي تغمرها أشعة الشمس في منطقة شونيبيرغ في برلين، حتى يبهره ذلك التناسق العفوي بين أعمال الفنانين المعاصرين والمنحوتات التي أبدعها فنانون أفارقة قبل أكثر من قرن من الزمن. يقول بيريز، صاحب صالة بيريز بروجيكتز الفنية في برلين: «نادرًا ما أعرض أكثر من 30 عملاً فنيًا أفريقيًا في آن. أعيش حياة بسيطة جدًا، ويكمن التحدي الذي أواجهه دومًا في إيجاد السبيل الأمثل لعرض القطع الفنية بأسلوب جميل قدر الإمكان في جوار مجموعتي الخاصة من روائع الفن المعاصر. ومن المهم عندي أن تتساوى الأعمال في كلا النوعين من حيث طريقة عرضها، فلا يتقدّم أحدهما على الآخر في تسلسل هرمي ما». يلفت بيريز إلى أن ما أثار لديه نهمًا دائمًا إلى الفنون العرقية الأفريقية كان تحديدًا المعرض المتميز Primitivism in 20th-Century Art «البدائية في فنون القرن العشرين» الذي نُظم سنة 1984 في متحف الفن الحديث في نيويورك. لكن على الرغم من ذلك، لم يشرع بيريز في جمع القطع التي تحتفي بتلك الفنون بصورة جدية إلا قرابة عام 2000. ومنذ ذلك الحين، جمع تاجر القطع الفنية المولود في كوبا نحو 150 قطعة من روائع الأعمال الفنية الأفريقية يعرضها اليوم مداورة في فسحة أشبه بصالة عرض كان قد ابتاعها سنة 2014 وعمد إلى تجديدها مجردًا مساحتها من أي زوائد.

 

«أولي اهتماما بالغا بالطرائق التي اعتمدتها الثقافات المختلفة

للتعبير عن نفسها وبما يعد جميلا من منظورها».

_ خافييه بيريز Javier Peres

 

صحيح أن بيريز استحوذ على عدد كبير من الأعمال الفنية الأفريقية من خلال المزادات، إلا أنه استحصل على بعض اكتشافاته الأعلى قيمة من خلال معرض الفن العرقي Parcours des Mondes «الرحلة إلى فضاءات العالم» الذي تستضيفه باريس، والذي ستنعقد نشاطات دورته السابعة عشرة هذا الشهر في حي سان جيرمان دي بريه. في سياق الحديث عن المعرض، وإذ يذكر بيريز تمثالاً لوجه رائع يعود لشعب فانغ (وهو شعب عرقي كان يستوطن وسط أفريقيا) اشتراه قبل ثلاث سنوات من التاجر البلجيكي برنار دو غرون، يعلّق قائلاً: «إنه لمن الرائع في هذا المعرض أنك لا تعرف مسبقًا ما قد تعثر عليه. كنت وشريكي بينوا وولفروم نخطط لشراء تمثال لوجه ضخم من الكونغو من ذاك التاجر الذي نادرًا ما يعرض أكثر من خمسة أو ستة تماثيل تتميز دائمًا بجودتها الفائقة. لكننا وقعنا آنذاك على تمثال فانغ. إذ شكّل جناح معروضات التاجر دو غرون أول محطة توقفنا فيها في ذلك الصباح، أردنا استكشاف المعروضات الأخرى قبل أن نوقع على صفقة شراء تمثال الوجه الذي يعود إلى قبائل الكونغو. وعلى الرغم من أننا قضينا في النهاية معظم اليوم في مناقشة مزاياه مع صديقنا ومستشارنا برونو كلاسينز، إلا أننا وبحلول الساعة السادسة مساء قررنا فجأة أن «تمثال فانغ هو ما نريد ابتياعه حقيقة». ينتصب اليوم التمثال الأثري المنحوت من الخشب، والذي يرجع أصله إلى الغابون في مطلع القرن التاسع عشر، كأنه حارس في شقة بيريز، وتحديدًا في غرفة المعيشة التي تتدثر بلون أبيض ناصع، وتجاوره لوحة Lavender Hill Mob من عام 2016، مشغولة بألوان الأكريليك على القماش فوق خلفية خشبية، وممهورة بتوقيع الفنان بلير ثورمان الذي تندرج أعماله ضمن المعروضات الدائمة في صالة بيريز بروجيكتز.

 

قناع Dan or We

قناع Dan or We الذي نحت في ساحل العاج ما بين أواخر القرن التاسع عشر
وأوائل القرن العشرين.

  

يقول بيريز إن مجموعته تنامت على مدى عقدين من الزمن تقريبًا، مضيفًا: «كنت في البداية منجذبًا بشكل رئيس إلى التماثيل الصغيرة التي تجسّد وجوهًا أنثوية وتزهو بالثراء اللوني، على غرار تلك التي أبدعها شعب باأولي Baoulé في ساحل العاج وشعب سينوفو Senufo في جنوب مالي. إني أولي اهتمامًا بالغًا بالطرائق التي اعتمدتها الثقافات المختلفة للتعبير عن نفسها وبما يُعد جميلاً من منظورها. لكن على مدى السنوات الخمس الماضية، تحوَّل تركيزي إلى أعمال فنية مصدرها منطقة شرق نيجيريا الواقعة على الحدود مع الكاميرون». يوضح بيريز أن هذه المنطقة بقيت مغفلة إلى حد كبير، إذ احتجبت إنجازاتها الفنية خلف أتون الأزمة الإنسانية التي عصفت بمعظم أنحاء المنطقة حتى نهاية الحرب الأهلية بنيجيريا في عام 1970. في ذلك الوقت، بدأ تجار فنيون مرموقون من أمثال هيلين لولو، وجاك كيرشاس، وفيليب غويموات، في تسليط الضوء على أعمال فنية لم تكن معروفة من قبل، ويعود ابتكارها إلى شعبي إغبو Igbo وموموي Mumuye.

 

قناع فانغ

قناع فانغ Fang منحوت في هيئة خوذة بقرنين لأفراد جماعة «سو» So Society،
جيء به من المنطقة الحدودية بين الغابون والكاميرون.
 

يقول بيريز: «تستهويني بكل بساطة المنحوتات التي يرجع أصلها إلى تلك المنطقة الحدودية لأنها تنأى إلى حد كبير عما هو مألوف، ومن ثمَّ عن نطاق المعايير الفنية». تشمل أبرز الأمثلة على ذلك تمثال كاكا Kaka الذي يعود إلى منطقة مبيم غربي الكاميرون، والذي ابتاعه في عام 2014. عُرضت هذه المنحوتة ضمن معرض Africa: The Art of a Continent «أفريقيا: فن قارة» الذي انعقدت نشاطاته بين عام 1995 وعام 1996 في الأكاديمية الملكية بلندن قبل أن ينتقل إلى متحف غوغنهايم في نيويورك، ومن ثمَّ متحف مارتن غروبيونس باو في برلين. يقول بيريز: «لقد أسرني التمثال عندما شاهدته في معرض Parcours، فابتعته على الفور».

 

قناع على شكل خوذة لجماعة «ساند» Sande Society

قناع على شكل خوذة لجماعة «ساند» Sande Society،
أبدعه شعب باسا في ليبيريا.

 

إذا كان من موضوع موحد يجمع بين الأعمال الفنية ضمن مجموعة بيريز، فإنه يتمثل في جودتها وأصالتها، ومعظمها تقريبًا أدرج في معارض أو شكّل موضوعًا لمنشور. يقول بيريز محذرًا: «عندما يتعلق الأمر بالفن الأفريقي الكلاسيكي، من المهم أن نأخذ في الحسبان واقع أننا نتعامل مع تحف أثرية، ومن ثمَّ مع ملكيات ثقافية قد تكون محمية بموجب القانون».

لا غرابة في أن تُباع هذه الأعمال الفنية الأصيلة بأسعار تفوق المتوقع. يقول بيريز: «أتذكر يوم كانت ميزانيتي لا تتجاوز عشرة آلاف دولار، ثم 25 ألف دولار، ثم 50 ألف دولار. آنذاك، كنت أشعر بأني لن أتوانى عن بيع ذراعي اليسرى، أو أحد أعضاء جسمي، للحصول على ذلك القناع أو ذاك التمثال». أما أحدث عمل استحوذ عليه بيريز، فهو تمثال يعود لشعب موموي، وكان يقبع ضمن مجموعة ليليان وميشيل دوران – ديسير، وقد ابتاعه بيريز في سياق مزاد عقدته دار كريستيز في شهر يونيو حزيران الفائت في باريس. سيشكل هذا التمثال أحد أبرز الروائع التي سيستضيفها معرض ينظّمه بيريز في شهر يناير كانون الثاني المقبل. عن هذا المعرض يقول: «إنه سيتيح استكشاف الطبقات التي تفصل بين العالم المحسوس وعالم الأحلام، والروابط التي أرصدها بين فناني اليوم وأولئك الذين نشطوا في القارة الأفريقية منذ قرون خلت». من المرجح أن يستكشف بيريز المزيد من مثل هذه الروابط في تلك السلسلة الحالمة في سياق معرض Parcours des Mondes الذي تنعقد نشاطاته هذا الشهر.