وهكذا أسدل الستار على حدثٍ لا جدال في أنه معرض التصميم الأعلى تميزًا في المنطقة: أسبوع دبي للتصميم Dubai Design Week. تحت رعاية صاحبة السمو الشيخة لطيفة بنت محمد بن راشد آل مكتوم، رئيسة هيئة الثقافة والفنون في دبي وعضو مجلسها، اختتم المعرض أخيرًا دورته الثامنة المتميزة التي انعقدت بين 8 و13 نوفمبر 2022، والتي نظمت إثر شراكة استراتيجية مع حي دبي للتصميم، المعروف باسم d3.

وبالتزامن مع المبادرات العالمية الراهنة، تركز موضوع هذه الدورة حول فكرة تصميم مستقبل مستدام تحت شعار "التأثير عبر التصميم". ولا حاجة لقولنا إن السرديات والرؤى الإبداعية في شتى أنحاء أسبوع دبي للتصميم توحدت في مقاربتها إذ ابتغت الدفع بقطاع التصميم في مسار صديق للبيئة أكثر من ذي قبل.

في هذا تقول مديرة أسبوع دبي للتصميم كايت باري: "افتتح الأسبوع ببرنامج تفاعلي يشهد على مكانة دبي بوصفها حاضنة للإبداع والتصميم. فقد طور رواد التصميم الإقليميون والعالميون أعمالاً حصرية تنضوي تحت فكرة التأثير عبر التصميم، أو بمعنى آخر التصميم الذي يخلف أثرًا إيجابيًا على البيئة. ولهذا السبب ركزت الأعمال المعروضة على ابتكار مواد جديدة وإعادة التدوير وإعادة التدوير للأفضل".

وتماشيًا مع منظور كايت، يمكن القول إن هذه النسخة من الأسبوع، التي ربما تعد الأشد ثراء في تاريخه، وضعت دبي في دائرة الأضواء من حيث كونها عاصمة التصميم في العالم العربي.

فقد استقبلت المدينة أكثر من 360 مشاركًا، بما في ذلك أكثر من 120 مصممًا مقيمًا في الإمارات العربية المتحدة. فضلاً عن ذلك، عززت مجموعة واسعة من الأعمال الفنية المركبة، والمحترفات، والمعارض، وحلقات النقاش وغيرها مكانة دبي بوصفها واحدة من أبرز مدن اليونسكو المبدعة.

بلاستيك "حيّ" ومستقبل لذاكرة الماضي

على الواجهة المائية لحي دبي للتصميم، أقيم معرض داون تاون ديزاين Downtown Design، القلب النابض لأسبوع دبي للتصميم، وفيه استُعرضت ابتكارات أكثر من 200 علامة إقليمية وعالمية، تجمعها رغبة مشتركة هي التوحيد بين التصميم والاستقرار البيئي. ولا مكان سادت فيه هذه الرغبة أكثر من الجناح الذي خُصص لمصممي الإمارات العربية المتحدة، حيث عرضت مجموعة أعمال مختارة من استوديوهات التصميم المحلية الناشئة.

في هذا الجناح، استأثرت بالأنظار مجموعة Moonrise المؤلفة من كرسي وطاولة بتدرجات لونية وردية مفعمة بالحياة (سعرها 41,900 درهم إماراتي)، والمصنوعة بالكامل من البلاستيك المعاد تدويره.

كرسي وطاولة Moonrise من علامة Anqa Studios، مصنوعان من البلاستيك المعاد تدويره بتدرجات لونية وردية.

كرسي وطاولة Moonrise من علامة Anqa Studios، مصنوعان من البلاستيك المعاد تدويره بتدرجات لونية وردية.

ويعد  الكرسي والطاولة جزءًا من مجموعة أولى أطلقتها العلامة المحلية Anqa Studios التي أسسها رائدا الأعمال المدافعان عن قيم الاستدامة يان روثكرانز ودولوريس شرايبر. وجدير بالذكر أن العلامة تخطو خطوات ثابتة نحو الاندماج في الاقتصاد الدائري المستدام عبر استخدام المواد المعاد تدويرها لصنع الأثاث.

على أن كل قطعة من هذه القطع الفنية مصنوعة يدويًا وفريدة من نوعها. وفي هذا تقول الشريكة المؤسسة دولوريس شرايبر: "لهذا السبب ارتأينا أن تصطبغ مجموعتنا الأولى باللون الوردي النابض بالحياة. فمُرادنا أن نشير إلى أن البلاستيك لم يمت بعد وأن كميات كبيرة منه تتعفن في مكبات النفايات، ولهذا نحاول أن نبثّ فيه حياة جديدة، حتى يظل في أتم عافية".

وفي جناح غير بعيد، عرض استوديو ARE، وهو تجمع للمصممين السوريين، مرايا ملوّنة على نحو جذل، في تحدّ لهيمنة المرايا المستقيمة الخطوط. تنتمي هذه المرايا إلى مجموعتهم الجديدة التي تحمل اسم "مستقبل ذاكرة الماضي"، وفيها أعاد المصممون تفسير المواد التقليدية بما يجعلها مواد معاصرة.

كرسي Williamsburg Chair المذهل للنحات والمصمم الفرنسي الشهير كلود آلان في جناح كريستيز.

كرسي Williamsburg Chair المذهل للنحات والمصمم الفرنسي الشهير كلود آلان في جناح كريستيز.

ومن أبرز قطع المجموعة مرايا Diminution Mirrors البديعة الألوان والمحاطة بخشب الماهوغاني وعرق اللؤلؤ (بسعر 24,500 درهم إماراتي)، ومرآة DCT Mirror المصنوعة من الزجاج الشبكي والمحاطة بخشب الماهوغاني وعرق اللؤلؤ (بسعر 55,000 درهم إماراتي). وفي كلا الطرازين، جسد المصممون معاني التعايش بين الأصالة والحداثة واستحضروا قيم التنوع.

أما في المساحة المخصصة لرائد المزادات، دار كريستيز، فأطلّ كرسي ويليامزبرغ Willamsburg Chair المذهل للنحات والمصمم الفرنسي الشهير كلود لالان، الذي تحظى ابتكاراته بحضور مهم ضمن مجموعات بعض أعظم جامعي الأعمال الفنية في العالم، أمثال إيف سان لوران وبيار بيرجيه وبيتر مارينو وجاك غرانج. يراوح سعر نموذجين من هذا الكرسي محدود الإصدار بين 350,000 و550,000 درهم إماراتي، وهو مصنوع من البرونز المذهب ومُستلهم من أزهار السوسن التي تذكرنا بمستنقعات فرجينيا، وينتمي إلى المجموعة الخاصة بابنة الفنان، مدام ماري لالان.

في جناح 1865 La Maison، طاولة طعام صُنع سطحها من الملكيت النقي بلون الزمرد.

Romuel Perey
في جناح 1865 La Maison، طاولة طعام صُنع سطحها من الملكيت النقي بلون الزمرد.

أحجار نفيسة وسجّاد منسوج يدويًا

كان الزوار التائقون إلى معاينة قطع متفردة وباذخة على موعد أيضًا مع معروضاتٍ باهرة في جناح العلامة المعاصرة 1865 La Maison التي تتباهى بمقدرتها على ابتكار تصاميم تصلح للتوريث وتشكل في الوقت نفسه روائع فنية ذات بعد وظيفي.

وكان أبرز ما عرضته العلامة طاولة طعام أخاذة صُنع سطحها من الملكيت النقي بلون الزمرد. يذكر تصميم الطاولة بأسلوب الآرت ديكو، فيما ترتفع فوق حامل مصنوع يدويًا من النحاس المصقول (يبلغ سعرها 157,000 درهم إماراتي). وأما طاولة القهوة المتفردة المتاخمة لها Rare Amethyst (بسعر 113,000 درهم إماراتي)، المتلألئة ببلورات أحجار الجمشت المستخرجة من البرازيل، فتستحضر روح الدار التي تستخدم أجود المواد والأحجار النفيسة في سعيها إلى تصميم "جواهر منزلية".

جناح Hands، حيث عُرض نموذج من السجادة التي ابتكرها ألف حرفي بمساحة 12,000 متر مربع لمسجد نور سلطان الكبير في كازاخستان.

Thomas_vijayan
جناح Hands، حيث عُرض نموذج من السجادة التي ابتكرها ألف حرفي بمساحة 12,000 متر مربع لمسجد نور سلطان الكبير في كازاخستان.

وفي سياق مواكبة حُمّى المونديال المتصاعدة هذا العام، ارتأت العلامة الإيطالية Teckell ترقية طاولة لكرة الطاولة Foosball إلى عمل فني طرحته في إصدار محدود اقتصر على 30 نموذجًا (بسعر 108,000 درهم إماراتي). وقد وُظفت علامة تيكيل في ابتكارها التكنولوجيا الإيطالية الرائدة لقطْع الزجاج المُقسّى والفولاذ المقاوم للصدأ، ثم طُلي الهيكل بالذهب على أيدي أمهر الحرفيين الإيطاليين، لتكون النتيجة مأثرة يستحسنها هواة كرة القدم.

كانت المنسوجات حاضرة أيضًا في معرض داون تاون ديزاين، ولاستطلاع خبايا إحدى أكبر السجادات المصنوعة يدويًا في العالم، ما كان على الزوار إلا معاينة الجناح الذي شغلته Hands، وهي علامة عائلية متخصصة في صنع السجاد الفاخر يدويًا، تأسست في الهند في عام 1881.بل إن سجاد هذه العلامة يُغطي الأرضيات في بعض أشهر الأبنية في العالم، من برج خليفة وبرج العرب في دبي إلى البيت الأبيض في واشنطن.

عُرض نموذجٌ من السجادة التي غطت أرضية مسجد نور سلطان الكبير في كازاخستان هذا العام. اشترك في صنع هذه السجادة أكثر من ألف حرفي، وبلغت مساحتها 12,000 متر مربع، فيما وصل وزنها إلى 110 أطنان، وهي اليوم تُنافس على لقب أكبر سجادة مصنوعة يدويًا في العالم. في حديث إلى مجلة Robb Report العربية عن هذا النموذج الباهر، يقول مدير العلامة براناي باتوديا مفاخرًا: "لقد تشرفنا بالعمل على سجادة مسجد نور سلطان الكبير الرائع في كازاخستان، ليس بوصفنا علامة فحسب، بل بوصفنا أمة أيضًا. فقد أتاح لنا هذا العمل منصة نعرض عليها ميراث الحرف اليدوية القديمة لبلدنا أمام العالم. كما أن هذا المسعى يتماشى مع غايتنا النهائية الرامية إلى سد الفجوة القائمة بين قطاع الحرف اليدوية غير المنظم وقطاع المنتجات الفاخرة شديد التنظيم".

مجموعة مرايا Diminution Mirrors البديعة الألوان والمحاطة بخشب الماهوغاني وعرق اللؤلؤ من استوديو ARE.

مجموعة مرايا Diminution Mirrors البديعة الألوان والمحاطة بخشب الماهوغاني وعرق اللؤلؤ من استوديو ARE.

لنناقش الطقس

لكن لا أعمال أثارت النقاش حول الاستدامة والتصميم مثلما فعلت الإبداعات الفنية المُركبة التي انتشرت في أرجاء حي دبي للتصميم. وخير مثال على ذلك معرضُ مستقبل الأزياء المتنقل للمصممة البريطانية الشهيرة ورائدة الأزياء المستدامة ستيلا مكارتني، الذي اجتذب الزوار وحرّضهم على استكشاف العالم المبتكر للمواد الصديقة البيئة.

في هذا المعرض، طالع الضيوف أعمالاً من مجموعة ستيلا مكارتني المستدامة التي أبدعتها على امتداد عقدين، مثل حقيبة Frayme Mylo التي تعد أول حقيبة فاخرة في العالم مصنوعة من الميسيليوم، المعروف أيضًا باسم الغزل الفطري. وشملت المعروضات الأخرى التي سُلط عليها الضوء مشدًّا وتنورة من قشور الفطر، وحذاء رياضيًا من قشور العنب، وكنزة من البلاستيك المستعاد في المحيط، وسترة بقلنسوة من القطن المتجدد، وقد عرضت كلها في حديقة من الفطر، على أنغام موسيقى متفردة مصدرها الفطريات.

معرض فني بعنوان "كم يزن رُكامك؟" من ابتكار استوديو التصميم السعودي الإيطالي Quartz Architects.

معرض فني بعنوان "كم يزن رُكامك؟" من ابتكار استوديو التصميم السعودي الإيطالي Quartz Architects.

استطاعت أيضًا أعمال المصممتين ماريا حِبري وهدى بارودي، القادمتين من استوديو Bokja Design في بيروت، أن تترك أثرًا قويًا بالمعنى الحرفي للكلمة، من خلال عرضهما المركب التفاعلي "لِنناقش الطقس". دعت المصممتان الزوار إلى حلبة ملاكمة (أو "حلبة الحياة") لتدوين ما يزعجهم على شرائط يُثبّتونها إلى كيس الملاكمة الذي احتل مركز الحلبة. وقد مكّن هذا العمل الفني، المصنوع بالكامل من مواد أعيد تدويرها، الحاضرين من التعبير عن استيائهم بخصوص بعض أكثر القضايا الملحة في عصرنا، وفي طليعتها أزمة البيئة.

وأقيم في الجوار معرض "كم يزن رُكامك؟" الذي صممه استوديو التصميم السعودي الإيطالي Quartz Architects، والذي حمل الزوار على المشي تحت موجة مقلوبة من الرُكام وإعادة التفكير في أساليب التخلص من مخلفات مبانيهم المهدومة. على أن المشي تحت ركام المواد المهدمة في حالتها الخام أكسب العرض طابعًا غير اعتيادي، إذ تأرجح بين المرح وتحفيز التفكير.

ضمن أسبوع دبي للتصميم، معرض تركيبي بعنوان  Once Upon a Forest (يُحكى أن في الغابة) من OBMI، مستلهم من غابات أشجار القرم في الإمارات.

ضمن أسبوع دبي للتصميم، معرض تركيبي بعنوان Once Upon a Forest (يُحكى أن في الغابة) من OBMI، مستلهم من غابات أشجار القرم في الإمارات.

في الواقع، لقد أصابت مديرة داون تاون ديزاين ميت ديغن كريستنسن حين قالت: "إن للمجتمع الإبداعي وصناعة التصميم أهمية بالغة، بداية من دراسة استخدام المواد ومدة صلاحيتها وكيفية تصميمها وحياتها بعد استعمالها، سواء تعلق الأمر بمواد البناء أو التغليف أو الإمدادات العامة أو اللوازم أو الأثاث.

على أن الحلول التصميمية تضطلع على العموم بدور محوري في النظم المُتّبعة لمجابهة الأخطار المحدقة بعالمنا الحاضر، مثلما تؤدي دورًا مهمًا في سبل تصميم عالم المستقبل". وهنا لا حاجة للقول إن ديغن - كريستنسن ستشعر بالاطمئنان لمعرفتها أن كل زائر من زوار المعرض بات عند مغادرة المعرض أكثر وعيًا بالدمار الملح الذي يهدد البشرية بسبب مسارات التصميم والبناء المتبعة حاليًا.