من جدران المتاحف إلى شاشات الجامعين، يعيد الفنانون الرقميون رسم حدود الممارسة الفنية المعاصرة. لم يعد هذا الفن مرادفًا للمضاربات المرتبطة بالعملات الرقمية، بل نضج ليصبح حقلاً قائمًا بذاته، يُحتفى فيه بدقة المفاهيم، والابتكار التقني، والقدرة على استثارة المشاعر.

وفيما يعود إرث هذا الفن إلى روّاد الخوارزميات في ستينيات القرن الماضي، أمثال فيرا مولنار وفريدر ناك، الذين حوّلوا الرموز البرمجية إلى وسيط إبداعي، يواصل اليوم فنانون معاصرون، على غرار رفيق أناضول وآية طارق، هذا المسار، ويقاربون التكنولوجيا للتعبير عن الذاكرة والإدراك والمعنى.

يقول رفيق أناضول، الفنان التركي الأمريكي الرائد في فن جماليات البيانات: "أرى في التكنولوجيا أداة ولغة. فـالذكاء الاصطناعي يتيح لنا العمل مع مجموعات بيانات ضخمة تمثّل الذاكرة الجمعية للبشرية. وأكثر ما يستثير حماسي هو إضفاء بعد شاعري على الخوارزميات". وتوافقه الرأي الفنانة المصرية متعددة التخصصات آية طارق، التي تجمع في أعمالها بين الرسم وتنفيذ الجداريات والرسوم المتحركة الغامرة. وفي هذا تقول: "لا يختص الفن الرقمي بمطاردة الابتكار، بل باستخدام التكنولوجيا بوصفها امتدادًا للغة الفنية. إنها مادة حيّة تُوظف في خدمة الفكرة وليس العكس". 

معًا، يمثّل أناضول وطارق جيلاً من الفنانين الذين يقدّمون العمق على البهرجة، متعاملين مع اللوحة الرقمية من حيث كونها مساحة للتأمل الإنساني، وليس استعراضًا تقنيًا".

رفيق أناضول، الفنان التركي الأمريكي الرائد في فن جماليات البيانات.

Efsun Erkiliç

رفيق أناضول، الفنان التركي الأمريكي الرائد في فن جماليات البيانات.

من المضاربة إلى الاندماج

في عام 2021، عندما باعت دار كريستيز العمل الرقمي المعنون Everydays: The First 5,000 Days  (كل يوم: أول 5,000 يوم) لمايك وينكلمان، المعروف باسم بيبل Beeple، مقابل 69.3 مليون دولار، اشتعلت حمى المضاربات ودخلت الرموز غير القابلة للاستبدال NFTs عناوين الأخبار العالمية. لكن هذا الازدهار لم يدم طويلاً، فقد تراجعت مبيعات هذه الرموز في مزادات كريستيز بنسبة 96% بين عامي 2021 و2022، وبحلول 2024، أصبحت غالبية الأعمال الفنية من هذا الطراز "منتهية الصلاحية حقيقةً".

بل إن كريستيز أعلنت في مطلع هذا العام عن إغلاق قسم الفن الرقمي المستقل لديها، لكن من دون التخلي عن التزامها بهذا الوسيط.

 وفي هذا يقول ماركوس فوكس، المدير العام العالمي لقسم فنون القرنين العشرين والحادي والعشرين في كريستيز: "لا نزال في بداية رحلة دمج الفن الرقمي ضمن التيار الرئيس لجمع الفنون الرفيعة. سيأتي يوم يصبح فيه الفن الرقمي مجرد فن. لم نصل إلى هذه اللحظة بعد، لكن ثمة جهودًا واعدة تُبذل حقيقةً في هذا المجال". 

يؤكد فوكس أن هذه الخطوة ليست تراجعًا بل "إعادة تموضع استراتيجية"، بدأت كريستيز بدمج الأعمال الرقمية ضمن نطاقات الأسعار المختلفة، إلى جانب فنون القرنين العشرين والحادي والعشرين، بدلاً من حصرها في فئات فرعية. 

وقد بات جليًا أن سوذبيز سارت على النهج نفسه عندما خفّضت من حجم قسم الرموز غير القابلة للاستبدال عام 2023. فعلى ما يقول فوكس: "بدأ طابع المضاربات الذي كان يهيمن على السوق يختفي، وبات الفنانون الحقيقيون يحظون اليوم بما يستحقونه من اهتمام. فهواة الجمع باتوا ينجذبون نحو الأفكار العظيمة المتجسدة في أعمال فنية متميزة، بغضّ النظر عن الوسيط المستخدم".

لوحة بيانات الذكاء الاصطناعي Machine Hallucinations – Mars لرفيق أناضول، التي عرضتها سوذبيز في مزاد "أصول" بالدرعية.

لوحة بيانات الذكاء الاصطناعي Machine Hallucinations – Mars لرفيق أناضول، التي عرضتها سوذبيز في مزاد "أصول" بالدرعية.

الاعتراف المؤسسي ونضج السوق

كان للدعم المؤسسي دور محوري في ترسيخ شرعية الفن الرقمي. فمن استحواذ متحف الفن الحديث MoMA على العمل المعنون Unsupervised (من دون إشراف) لرفيق أناضول، إلى تبنّي متحف الفنون في مقاطعة لوس أنجليس LACMA لأعمال قائمة على التعاملات الرقمية التسلسلية (بلوك تشين)، بدأت المتاحف تعترف بالترميز البرمجي والبيانات والمحاكاة بوصفها أشكالاً مشروعة للتعبير الفني. 

يقول ماركوس فوكس: «إن تصدر متحف توليدو للمشهد واجتذابه هذا القدر من الانتباه شكلا دراسة حالة رائعة، وقد تبع ذلك تفاعل كبير من الفنانين والجمهور. لا شك في أن الدعم المؤسسي مهم، فهو يمنح هواة الجمع الثقة ويساعد هذا الوسيط الفني على تحقيق النضج". 

العمل الرقمي المعنون Everydays: The First 5,000 Days الذي بيع في مزاد كريستيز مقابل 69.3 مليون دولار.

العمل الرقمي المعنون Everydays: The First 5,000 Days الذي بيع في مزاد كريستيز مقابل 69.3 مليون دولار.

 على أن هذه المصادقة لا تقتصر على المؤسسات الفنية الغربية. ففي مختلف أنحاء الشرق الأوسط، يشهد الفن الرقمي ازدهارًا بوصفه بيانًا ثقافيًا وبنيةً معماريةً تجريبية. على سبيل المثال، سلط أول مزاد نظّمته دار سوذبيز في السعودية مطلع هذا العام تحت عنوان "أصول" Origins وضمّ أعمالاً رقمية، وافتتاح متحف الدرعية للفن المستقبلي، الضوء على شهية هواة الجمع في المنطقة تجاه الإبداعات الفنية التي تمزج بين التكنولوجيا والتراث.

عمل رقمي بعنوان "ثانية واحدة قبل منتصف الليل" للفنانة آية طارق.

عمل رقمي بعنوان "ثانية واحدة قبل منتصف الليل" للفنانة آية طارق.

يعلّق فوكس على هذه الظاهرة قائلاً: «بالنسبة لهواة الجمع في الشرق الأوسط، يعكس الفن الرقمي طموحات وطنية أوسع نطاقًا، إذ يجذبهم الابتكار المتجذّر في أرض التقاليد. والحديث هنا ليس عن المضاربة، بل عن بعد ثقافي".

وفي هذا السياق، تطورت توقعات الجامعين. فبعد أن كانت الحقبة الأولى من تداول الرموز غير القابلة للاستبدال محكومة بعنصر المفاجأة والمضاربة، بدأت الأنظار تتجه إلى عمق الفكرة، ودقة التنفيذ، ووقعها العاطفي.

وأصبحت الأعمال الهجينة، التي تجمع بين مكوّنات مادية ونُسخ رقمية أو إثبات ملكية قائم على التعاملات الرقمية التسلسلية، تحظى بجاذبية خاصة لما تقدّمه من مزيج متفرد بين البعد الملموس والابتكار.

العمل المعنون Unsupervised  (من دون إشراف) لرفيق أناضول، والذي استحوذ عليه متحف الفن الحديث MoMA.

العمل المعنون Unsupervised  (من دون إشراف) لرفيق أناضول، والذي استحوذ عليه متحف الفن الحديث MoMA.

خارج حدود الشاشة: الطابع المادي والعاطفة

من أبرز المفاهيم الخاطئة المرتبطة بالفن الرقمي تصوّره بوصفه فنًا "غير مادي". غير أن فنانين مثل رفيق أناضول وآية طارق يتحدّون هذا التصوّر من خلال التركيز على التوسّع في الحجم، والبعد التفاعلي، والتجربة الحسية. 

تشبه منحوتات أناضول البيانية عوالم غامرة من الضوء والصوت، وغالبًا ما تتخذ طابعًا معماريًا ضخمًا. 

وقد أنارت أعماله، التي حوّلت الرموز المؤقتة إلى بيئات حسية ملموسة، واجهات مبانٍ في برشلونة ولوس أنجليس وغيرهما. وفي هذا يقول أناضول: «عندما تصبح الخوارزميات بنية معمارية، يتبدد الحد الفاصل بين العالمين الواقعي والافتراضي".

أطلق أناضول مشروع البيئة الغامرة Pladis: Data Universe ضمن سلسلة بحثية تتناول التركيبات السمعية والبصرية.

أطلق أناضول مشروع البيئة الغامرة Pladis: Data Universe ضمن سلسلة بحثية تتناول التركيبات السمعية والبصرية. 

بدورها، تمزج آية طارق بين الرسم، والإسقاط الضوئي، والصوت، لتؤكد أن "الأدوات الرقمية تمتلك ملمسًا خاصًا. قد تكون متعددة الطبقات، ومحسوسة، حتى غير مثالية، لكن المهم هو ما يشعر به الأفراد عندما يقفون أمام العمل، فلا يرون فيه عملاً رقميًا فحسب". 

هذا التفاعل بين التقنية والإدراك يعيد إلى الأذهان إرث الفنان جيمس توريل، الذي تجاوز في استكشافه للضوء والوعي حدود التجربة المادية وغير المادية. فأداء توريل الثابت في سوق الفن يعكس تقدير الجامعين لعمق التجربة الحسية، أكثر من تركيزهم على وسيلة التعبير.

عمل للفنانة آية طارق التي تمزج بين الرسم، والإسقاط الضوئي، والصوت.

عمل للفنانة آية طارق التي تمزج بين الرسم، والإسقاط الضوئي، والصوت.

القيمة والأصالة والإرث

بمرور الوقت، تحوّلت بوصلة الاهتمام بالقيمة من التركيز على رموز التعاملات الرقمية التسلسلية إلى مفاهيم الاستدامة والنزاهة الفنية. فبعد أن كانت الرموز غير القابلة للاستبدال تُقدَّم بوصفها دليل امتلاك لا يُمحى، باتت الأولوية من منظور جامعي الفنون للتواصل العاطفي، والنية التعبيرية، والصدى الإنساني الذي يحققه العمل الفني. وفي هذا تقول آية طارق: "لا تكمن الأصالة برأيي في رموز التشفير، بل في القدرة على نقل رسالة شخصية في العمق. ففي عالم يفيض بالمحتوى الرقمي، أصبح الصدق من المواد الخام الأشد ندرة". 

ويُعبّر ماركوس فوكس عن توجّه مشابه نحو القيمة المتأصلة، فيقول: "الجامعون يتوجهون نحو الأفكار العظيمة التي تتجسد في أعمال فنية عظيمة، بغض النظر عن الوسيط المستخدم. الغاية ليست الفصل، بل الدمج، وإذا كانت الجودة عالية والصدى البصري حقيقيًا، فإن العمل سيحافظ على قيمته". 

ينعكس الاستقرار النسبي لهذا التوجّه في تقارير السوق الأخيرة. ففيما شهدت مبيعات الفن عمومًا تراجعًا في عام 2024، حافظت الفنون الرقمية والوسائط الإعلامية على حضورها في المؤسسات الفنية، ما يشير إلى أن الأهمية الثقافية تتفوق اليوم على التقلبات المؤقتة.

استعادة السردية

بعد سنوات من التهويل التسويقي، يستعيد الفنانون الرقميون زمام المبادرة في تشكيل سردياتهم الخاصة. فلم تعد المحادثات تدور حول الرموز أو المضاربة، بل حول الشكل، والشعور، والإرث الفني. توضح آية طارق هذا التحوّل بقولها: "إننا نقف عند مفترق طرق حيث يندمج الفن والثقافة والابتكار باستمرار. 

ما يستثير الاهتمام ليس تقنية بعينها، بل عقلية جديدة، مرنة وتعاونية وغير مقيدة بالتصنيفات. الفن الرقمي يجسّد روح هذا العصر، فهو مرآة تعكس أساليب تواصلنا، وأرشيفنا، وأحلامنا". يشاطرها أناضول هذا الرأي قائلًا: "العاطفة هي الحدود القصوى للفن الرقمي. عندما تحمل الخوارزميات تعاطفًا، عندما يحلم الناس بشكل مختلف أمام منحوتة من البيانات، حينها يصبح الفن الرقمي إنسانيًا في العمق". 

في عمل بعنوان SHANAFA، تستكشف طارق الهوس بالاستهلاك وتأثيره على القيم المجتمعية المصرية.

في عمل بعنوان SHANAFA، تستكشف طارق الهوس بالاستهلاك وتأثيره على القيم المجتمعية المصرية. 

باختصار، ومع انقشاع غبار المضاربات، بات نبض الفن الرقمي أكثر اتزانًا. قد يكون السوق أصغر، لكن أسسه أصبحت أكثر رسوخًا: حوار نقدي فاعل، ودعم مؤسسي، وصدى عاطفي ملموس. فالفنانون ما عادوا يلاحقون التقلبات، بل يبنون إرثًا.

والجامعون، من لندن إلى الرياض، باتوا يدركون أن قيمة الأعمال الرقمية الخالدة تكمن في معناها، وليس في حداثتها. لذا يصح القول إن الحقبة المستقبلية للفن الرقمي لن تتشكّل بفعل الضجيج أو الأجهزة، بل من خلال الإنسان، وفي هذا تذكيرٌ بأن الاتصال العاطفي، حتى في عالم تصنعه الرموز البرمجية، يظل المعيار الأصدق للفن.