تتبدّل ملامح سوق المزادات الفنية بوتيرة متسارعة، مدفوعة بتغيّرات اقتصادية عالمية وتحوّلات في سلوك الزبائن، ما أفرز مشهدًا جديدًا خلال النصف الأول من عام 2025، تتراجع فيه هيمنة الأسعار القياسية لصالح القيمة الفنية والتاريخية. وفيما استعادت الأعمال الكلاسيكية بريقها، أعادت الفئات المعاصرة والحديثة تموضعها بما يعكس نضجًا متزايدًا في الذائقة الاستثمارية.

من خلال تحليل شامل، تتضح ملامح مرحلة جديدة في سوق المزادات، تتقاطع فيها الرمزية البصرية مع العمق المفاهيمي، وتبرز فيها أسماء من مدارس فنية مختلفة، من بيت موندريان إلى جان-ميشيل باسكيا مرورًا برينيه ماغريت ورفيق أناضول، في مشهد فني يعيد تعريف القيمة ويمنح التصوير الفوتوغرافي والفن التقني مكانة غير مسبوقة. 

تراجع في أسعار الأعمال الانطباعية والحديثة

شهدت فئة الأعمال الانطباعية والحديثة هذا العام تباطؤًا ملحوظًا في وتيرة المبيعات القياسية، إذ تراجع عدد اللوحات الفنية التي تخطّت حاجز 20 مليون دولار أمريكي، من ثماني قطع في عام 2024 إلى خمس فقط في الموسم الحالي، في انعكاس واضح لحالة الحذر التي تسود أوساط جامعي التحف والمستثمرين في الفن الكلاسيكي الحديث.

تصدّرت القائمة لوحة نادرة للفنان الهولندي بيت موندريان من مقتنيات ليونارد ريغيو، مؤسس سلسلة متاجر بارنز أند نوبل Barnes & Noble، التي عادت إلى السوق بعد غياب دام ربع قرن لتُباع مقابل نحو 50 مليون دولار أمريكي، عبر مزايدة واحدة فقط، وهو ما يعكس استمرار الطلب على أعمال الأسماء التاريخية الكبرى رغم تقلّبات السوق.

كما برز اسم الفنان البلجيكي رينيه ماغريت بقوة، بعدما استحوذ على ثلاثة مراكز ضمن قائمة الأعمال الأعلى سعرًا، في تأكيد جديد على تصاعد الاهتمام العالمي بالفن السريالي الذي يمزج بين الفلسفة والخيال البصري.

وفي تعليقها على هذا التحوّل، أوضحت المستشارة الفنية كريستين تيرني أن شريحة متزايدة من الجامعين الذين بدأوا باقتناء أعمال ما بعد الحرب والفنون المعاصرة باتوا يتّجهون نحو الفن التاريخي المرجعي، بوصفه القاعدة التي انبثقت منها الاتجاهات الحديثة، لافتةً إلى أن هذه الأعمال لا تزال تُعد فرصة استثمارية واعدة.

تراجع في أسعار الأعمال الانطباعية والحديثة

Christie's

انتعاش ملحوظ في مبيعات الأعمال الكلاسيكية

على الجانب الآخر، سجلّت فئة الأعمال الكلاسيكية انتعاشًا ملحوظًا في مبيعاتها، ما أعاد إليها بريقها التاريخي. فقد ارتفعت مبيعات هذا القطاع بنسبة 24% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، ما يعكس تحولاً تدريجيًا في اهتمامات الجامعين نحو الفنون القديمة التي تستمد قيمتها من الندرة والتاريخ، بدلاً من الاعتماد على الزخم الإعلامي أو المضاربات السوقية.

ورغم أن أعلى سعر بيع هذا العام لم يتجاوز 10.5 مليون دولار أمريكي، مقارنةً بمبلغ 28.9 مليون دولار في 2024، فإن التركيبة العامة للمبيعات كشفت عن سوق أكثر توازنًا ونضجًا، إذ تخطّت الأعمال العشرة الأعلى سعرًا حاجز 3 ملايين دولار، فيما لم يحقق هذا الرقم سوى ثلاثة أعمال فقط في العام الماضي.

من أبرز المحطات هذا الموسم، بيعت مجموعة جوردان وتوماس أ. سوندرز الثالث Jordan and Thomas A. Saunders III عبر دار سوذبيز في نيويورك خلال شهر مايو، وقد ضمّت ستة أعمال من بين الأعمال العشرة الأبرز التي بيعت. ورغم أن الضمانات الداخلية والتقديرات العالية قلّصت من حدة المنافسة، إلا أن الأعمال بيعت بأسعار استثنائية.

ومع ذلك، حافظ السوق على حيويته بفضل استمرار الطلب على الأعمال ذات الطابع العصري ضمن المدرسة الكلاسيكية، لا سيما لوحات فرانس هالس وملينديز، التي تمزج بين الواقعية الدقيقة والنَفَس الحداثي المبكر الذي يجذب جيلاً جديدًا من الجامعين.

الفن المعاصر يتجه نحو النضج

في موازاة هذا المشهد الذي تهيمن عليه الأسماء الكبرى، يشهد الفن المعاصر تحوّلاً لافتًا نحو النضج. فبعد سنوات من الصعود السريع للفنانين الشباب، بدأت السوق تميل إلى التريّث وإعادة التقييم، في انعكاس مباشر للتباطؤ الذي شهده القطاع أخيرًا. وغابت الأسماء الصاعدة من مواليد التسعينيات في ما بعد عن المراكز الأولى، لتفسح المجال أمام جيل أكثر نضجًا من الفنانين المولودين في الفترة بين السبعينيات والثمانينيات، الذين يجمعون بين التجربة الفنية الراسخة والاعتراف النقدي والتجاري على حدّ سواء.

ترى المستشارة الفنية هيذر فلو أن هذا التحول ليس مجرد تغير في الأذواق، بل هو مؤشر على تراجع موجة المضاربات التي اجتاحت السوق خلال الأعوام الماضية، إذ بات جامعو الأعمال الفنية يوجّهون استثماراتهم نحو اقتناء قطع تحمل قيمة فنية دائمة، وليس مجرد وهج لحظة عابرة.

ورغم استمرار هيمنة اللوحات الزيتية والتعبيرية على المزادات، إلا أن الساحة شهدت اختراقًا استثنائيًا تمثّل في دخول الفنان الرقمي رفيق أناضول إلى القائمة، من خلال عمل مولّد بالذكاء الاصطناعي، بيع في أول مزاد تنظمه دار سوذبيز في المملكة العربية السعودية، في خطوة تُعد إيذانًا بعصر جديد يتقاطع فيه الفن والتكنولوجيا على أرض الواقع.

انتعاش ملحوظ في مبيعات الأعمال الكلاسيكية

Sotheby’s

جان-ميشيل باسكيا يتصدر فئة المعاصرين

فرض جان-ميشيل باسكيا هيمنته المطلقة على مشهد الفن المعاصر، بعد أن استأثر بستة مراكز من بين الأعمال العشرة الأعلى سعرًا هذا العام، ليُكرّس مكانته بوصفه رمزًا لا ينافس في سوق المزادات العالمية. أما المراكز الأربعة المتبقية، فقد توزّعت بين أربعة فنانين فقط، ثلاثة منهن نساء، في انعكاس واضح لتحوّل لافت تشهده الساحة الفنية، مقارنةً بمنتصف عام 2024 حين كانت القائمة حكرًا على الفنانين الذكور.

وفي خطوة تُعد علامة فارقة في تاريخ الفن الحديث، حققت الفنانة الجنوب إفريقية مارلين دوماس رقمًا قياسيًا جديدًا، بعدما بيعت إحدى لوحاتها مقابل 13.6 مليون دولار أمريكي، لتصبح أغلى لوحة لفنانة حية على الإطلاق. بذلك تُزيح جيني سافيل عن الصدارة التي احتفظت بها منذ عام 2018، حين بيع أحد أعمالها بمبلغ 12.5 مليون دولار. ومع ذلك، فإذا ما أُخذ عامل التضخم في الاعتبار، تبقى سافيل في المقدمة نظريًا، إذ تعادل قيمة لوحتها اليوم نحو 15.9 مليون دولار، في مقارنة تعكس عمق التحولات التي يشهدها سوق الفن المعاصر بين الأجيال والمدارس المختلفة.

جان-ميشيل باسكيا يتصدر فئة المعاصرين

Sotheby’s

تصاعد في سوق التصوير الفوتوغرافي

رغم طابعه الهادئ مقارنة بسوق الفن التشكيلي، بدأ سوق التصوير الفوتوغرافي يفرض نفسه بقوة على خريطة المزادات العالمية، مدفوعًا بارتفاع الطلب على الأعمال النادرة التي تمزج بين البساطة الجمالية والرمزية التاريخية. فرغم محدودية هذه الفئة نسبيًا، إلا أن قيمتها السوقية تتنامى بوتيرة ثابتة، مع تزايد اهتمام المؤسسات والمقتنين الخاصين بامتلاك صور تحمل طابعًا رمزيًا يتجاوز الزمان والمكان.

ووفقًا لما أكدته فلورنس بورجوا، مديرة معرض باريس فوتو Paris Photo، فقد سجّل السوق أداءً قويًا خلال النصف الأول من العام، بعدما تجاوزت أربعة أعمال فوتوغرافية حاجز المليون دولار أمريكي، مقارنة بعملين فقط في 2024، ما يعكس تحوّل التصوير من فئة هامشية إلى ساحة تنافسية رفيعة ضمن المشهد الفني العالمي.

برزت ضمن النتائج صورة مان راي الشهيرة لعارضة تحمل قناعًا إفريقيًا، وكانت قد بيعت عام 2007 مقابل 396 ألف دولار أمريكي، لتُباع هذا العام بأكثر من سبعة أضعاف ذلك السعر، في دليل واضح على تصاعد قيمتها الرمزية والفنية.

تصاعد في سوق التصوير الفوتوغرافي

Christie's

كما برز فنانو Pictures Generation (جيل الصور) الذين أعادوا تعريف العلاقة بين الصورة والسلطة البصرية منذ سبعينيات القرن الماضي. وقد تألق كل من ريتشارد برينس وباربرا كروغر، وهما من أبرز رموز هذا التيار الفني الذي استخدم الصور المستهلكة من الإعلام والإعلانات لإعادة صياغتها بأسلوب نقدي يكشف عن البُنى الثقافية والاجتماعية الكامنة خلفها.

إلى جانبهما، عزّز المصوّر الأمريكي ويليام إيغليستون موقعه بوصفه أحد أشهر الأسماء المعاصرة..

 بفضل أعماله التي تميّزت بتوثيق الحياة اليومية بأسلوب فني فريد، ما جعله يحجز مكانًا ثابتًا في المزادات الكبرى. هذا الحضور اللافت يعكس تطور السوق نحو تقدير الأعمال التي تجمع بين الرمزية البصرية والعمق المفاهيمي، حتى في فئة التصوير التي لطالما اعتُبرت هامشية مقارنة بالفن المعاصر.