ما إن تطأ قدماك فندق ذا بالاس The Palace حتى يخالجك شعور بأنك تلامس روح مدريد في مكان يلتقي فيه التاريخ مع الثقافة ومعاني الأناقة الخالدة تحت سقف واحد. 

بل إن هذا الفندق الذي يحتكر موقعًا متفردًا ضمن موقع Paisaje de la Luz  (مشهد الضوء)، المُدرج على قائمة التراث العالمي لليونسكو، لا يُعد وجهة للضيافة فحسب. 

إنه شهادة حية على روح المدينة النابضة بالحيوية. وفي أعقاب عملية تحديث دقيقة استمرت أربع سنوات وقادها المعماري الشهير لازارو روزا - فيولان، يعود ذا بالاس إلى الحياة في حلة جديدة ترقى بتصميمه معاني الرفاهية فيه من دون أن ينتقص ذلك من شخصيته وروحه الأصيلة.

في عام 2025، يستعيد هذا الصرح الأسطوري، الذي يتبع اليوم علامة ذا لاكشيري كوليكشن The Luxury Collection، مكانته في قلب الحياة الثقافية والاجتماعية في مدريد، جامعًا بين التقاليد والحداثة بأسلوب لا وجهة تتقنه بقدر مدريد. 

وإن كان بلوغ مكانة أسطورية في عالم الضيافة ليس بالأمر الهيّن اليوم، لا سيما مع ارتفاع سقف توقعات المسافرين الذين يتوقون إلى الجديد والمفاجئ وينشدون تجارب ثقافية متقنة، فإن ذا بالاس في مدريد لا يكتفي بالحفاظ على هذه المكانة، بل يعيد تأكيد نفسه بوصفه واحدًا من العناوين الفندقية الأكثر فخامة وحيوية في المدينة.

يقع الفندق في حي سينترو بمدريد، وعلى بعد خطوات قليلة من المثلث الذهبي للفن (موطن المتاحف الشهيرة مثل متحف ديل برادو، ومتحف ريينا صوفيا، ومتحف ثيسن - بورنيميسز الوطني)، وقد شكل منذ افتتاحه في عام 1912 جزءًا لا يتجزأ من النسيج الفني والفكري للمدينة. 

صممه في الأصل المعماري الكاتالوني إدواردو فيريس إي بويغ، وشكل في بداياته أكبر فندق في أوروبا، إلى جانب دوره الريادي في تبني معاني الضيافة الحديثة: جُهز بحمامات خاصة ثم لاحقًا بهواتف داخل الغرف قبل أن تصبح هذه التجهيزات معيارًا شائعًا.

فندق ذا بالاس.. تلاحم التراث والحداثة

وفي أحدث تحوّلات هذا الصرح، حرص لازارو روزا - فيولان على تكريم تاريخه العريق متفاديًا الانجرار وراء التوجهات الآنية أو الاستنساخ، ليصوغ مساحات داخلية تبدو عصرية وذات طابع خالد في الوقت نفسه. 

وقد استلهم المعماري رؤيته بجزء كبير منها من مدينة مدريد نفسها: لوحة ألوان زرقاء عميقة تحاكي أفق المدينة، وزخارف نباتية تكرّم الحدائق الملكية القريبة، وتماثيل أسطورية مستوحاة من نافورة نيبتونو الواقعة أمام الفندق مباشرة. 

واليوم، باتت كل فسحة إقامة مجهزة بمدفأة تضفي إحساسًا بالحميمية على المكان. يضم ذا بالاس، الذي يُعد أكبر فندق فاخر في مدريد، 470  غرفة وجناحًا، يطل العديد منها على ساحة بلازا دي لاس كورتيس أو ساحة بلازا كانوفاس ديل كاستيو. 

يستأثر مطعم La Cúpula بالأنظار من موقعه تحت القبة الزجاجية الملونة، حيث تتغير أجواؤه على مدار اليوم وفق الضوء المنساب عبر الزجاج.

The Palace

يستأثر مطعم La Cúpula بالأنظار من موقعه تحت القبة الزجاجية الملونة، حيث تتغير أجواؤه على مدار اليوم وفق الضوء المنساب عبر الزجاج.

أما فسحة الإقامة الأعلى تميزًا ضمن مجموعة الأجنحة التي تحتفي بإرث الفندق، فتتمثل بالجناح الملكي الذي يمتد على مساحة 1,700 قدم مربعة تزدان بالرخام المنحوت، والأعمال الخشبية المبتكرة خصوصًا للفندق، والذي يكتمل بحجرة طعام كبيرة، ومكتبة، ومطبخ لطاهٍ محترف. 

وفي الغرف والأجنحة كلها، نُفّذ كل تفصيل، من النسيج إلى الضوء، بدقة لاستحداث حوار متوازن بين التراث والحداثة من دون الانغماس في الحنين إلى الماضي. هنا أيضًا تتوزع جداريات صممها محترف روزا- فيولان وتستعرض مشاهد طبيعية من مدريد مثل متنزه كازا دي كامبو، مستدرجة مفاتن المدينة إلى المساحات الداخلية. 

وفي قلب المبنى، جرى ترميم الجوهرة المعمارية الكبرى: القبة المشغولة من الزجاج والحديد المطروق، والتي صمّمها إدواردو فيريس إي بويغ عام 1912 ونفذها الأخوان المشهوران ماوميجان. 

تطلب العمل تفكيك 1,875 قطعة زجاجية فردية، جرى ترقيمها وإصلاحها، قبل إعادة تركيب القبة لتستعيد بريقها الأصلي. وتحت القبة، عاد المصباح الشهير الذي يتخذ شكل نخلة إلى موقعه المركزي، رمزًا للاستمرارية والتجدد.

يضم الفندق 470 غرفة وجناحًا تبدو مساحاتها الداخلية عصرية وذات طابع خالد في الوقت نفسه.

The Palace

يضم الفندق 470 غرفة وجناحًا تبدو مساحاتها الداخلية عصرية وذات طابع خالد في الوقت نفسه.

الثقافة والفن.. خيط متواصل

على مر العقود، استقطب ذا بالاس قائمة متمايزة من الضيوف الذين أضاف كل منهم إلى هالته جرعة من السحر والغموض. حجز إرنست همنغواي الغرفة نفسها في الفندق وخلّده في روايته الشهيرة Fiesta: The Sun Also Rises  (ولا تزال الشمس تشرق). 

هنا أيضًا أقام بيكاسو في عام 1917 في أثناء تصميمه لديكورات الباليه الروسي، وقضت الجاسوسة الغامضة ماتا هاري أيام حريتها الأخيرة قبل اعتقالها. 

ولا مبالغة في القول إن قائمة الضيوف تشبه صالة ثقافية تجتمع فيها أسماء المشاهير، من ماريا كوري، وأينشتاين، وسترافينسكي، إلى شتراوس، ودارِي، وغيرهم من الذين وجدوا في الفندق مصدر إلهام وملاذًا آمنًا. 

خلال الحرب العالمية الأولى، أصبح الفندق ملاذًا للدبلوماسيين والأرستقراطيين الأوروبيين، وفي سنوات ما بين الحربين، كانت صالوناته تنبض بأفكار مبدعي إسبانيا الأوائل. 

أما في أثناء الحرب الأهلية، فشهدت القبة الزجاجية الملونة تحول الفندق مؤقتًا إلى مستشفى ميداني. ومع كل اسم وكل قصة، كان إرث الفندق يزداد عمقًا، مؤكدًا مكانته، ليس بوصفه معلمًا من معالم مدريد، بل فصلاً حيًا من حكاية التاريخ الثقافي الأوروبي أيضًا.

وقد استلهم روزا - فيولان وفريقه من عوالم ضيوف الفندق الأسطوريين، أمثال بيكاسو، وماتا هاري، ودالي، ولوركا، وهمنغواي، ليزينوا أرجاء الفندق بالسجاد المصمّم خصوصًا للمكان، والجداريات الأصلية، والأعمال الفنية، محوّلين الممرات إلى معارض حالمة. والنتيجة هي قصر يصوّر مدريد الأسطورية في حوار مع عالم غويّا والروح الطليعية التي سادت في القرن العشرين. 

الفن هنا يبدو مثل خيط متواصل. فإلى جانب أعمال مختارة من مجموعة روزا - فيولان الخاصة، أبدع فنانو الرسوميات قطعًا أصلية تُكرّم إرث مدريد الثقافي. كما أن السير في الممرات يشبه التحرك عبر سرد مُنسّق للمدينة نفسها يوثّقه معرض متجدد يلتقي فيه الماضي بالحاضر. 

وإذ يمتد هذا النهج خارج جدران الفندق، يتعاون ذا بالاس مع متحف ثيسن - بورنيميسز الوطني لتقديم جولة حصرية شهرية لاثني عشر ضيفًا فقط (امتياز خاص لأولئك الذين يحجزون ضمن باقات إقامة مُنظّمة) تتسنى لهم الفرصة لاستكشاف مجموعة المتحف. وفي هذا دلالة بالغة على الفلسفة التي ينتهجها ذا بالاس: لا يُقاس الترف هنا بمظاهر الفخامة، بل بالوصول إلى الثقافة، والخصوصية، والتجارب التي تحوّل كل إقامة إلى قصة لا تُنسى.

تتزيّن فسحات الإقامة بجداريات صممها محترف روزا- فيولان وتستعرض مشاهد طبيعية من مدريد.

The Palace

تتزيّن فسحات الإقامة بجداريات صممها محترف روزا- فيولان وتستعرض مشاهد طبيعية من مدريد.

تجارب مترفة

في قلب الفندق، يستأثر مطعم "لا كوبولا" La Cúpula بالأنظار من موقعه تحت القبة الزجاجية الملونة، حيث تتغير أجواؤه على مدار اليوم وفق الضوء المنساب عبر الزجاج. 

وإذ يقود المطعم الطاهي التنفيذي نونو ماتوس، الذي يمتد مشواره لأكثر من عقد في فنون الطهي الرفيعة، بما في ذلك مطابخ حائزة نجوم ميشلان، تعيد قوائم الطعام تفسير المطبخ الإسباني بدقة واحترام للمكوّنات المحلية، وتتجاور الوصفات الكلاسيكية مثل طبق اللحم النيء steak Tartare الذي يكرّم الكاتب خوليو كامبا، الضيف المتكرر، مع الإبداعات المعاصرة مثل طبق الأخطبوط الجاليسي مع الثوم الأبيض والصنوبر أو كارباتشيو الروبيان مع الليمون والزعفران والكزبرة. 

يزدان ناديClub 27  بألواح خشبية محمية تراثيًا و54 لوحة توضيحية توثق قرنًا من حكايات ذا بالاس.

The Palace

يزدان ناديClub 27  بألواح خشبية محمية تراثيًا و54 لوحة توضيحية توثق قرنًا من حكايات ذا بالاس.

وفي أوقات النهار، يقدّم المطعم قائمة من الأطباق الصغيرة المعدّة للمشاركة، مثل كرُوكيت السمك، والأنشوجة مع زبدة الأعشاب البحرية، قبل أن يتحول كل خميس إلى مسرح للطقوس الطهوية في فعالية Epicurean Moment  التي تحتفي بمذاقات المناطق المتنوعة في إسبانيا. 

وعلى بعد خطوات، يقدم ناديClub 27  ملاذًا أكثر حميمية فيما يزدان بألواح خشبية محمية تراثيًا و54 لوحة توضيحية توثق قرنًا من حكايات ذا بالاس، حتى يكاد الزائر يخال أنه يسمع صدى اللقاءات السابقة، عندما اجتمع لوركا ودالي وبونويل داخل الجدران نفسها.

في الطابق العلوي، يوفّر مركز رياضي تحميه سقوف زجاجية واحة لتجارب العافية، بينما تمتد قاعات المناسبات على مساحة 27,500 قدم مربعة، ويشمل ذلك قاعة احتفالات فخمة تضع ذا بالاس في موقع يجمع بين الملاذ والمسرح. 

عندما تزور ذا بالاس، تدرك أن هذا الفصل الجديد من حياته لا يتعلق بالاستعادة من أجل التغيير فحسب، بل هو تعبير أصدق وأعمق عما مثّله ذا بالاس على مر عمره: حجر زاوية في هوية مدريد الفنية والثقافية، والإقامة هنا تعني اختبار المدينة بماضيها وحاضرها تحت سقف واحد.