على الورق الذي لامسته أنامل رامبرانت قبل نحو أربعة قرون، يربض أسد شاب في سكونٍ متحفّز، تجمع نظراته بين الهيبة والغموض، في مشهد يُعيد إلى الضوء عبقرية رسّام استطاع أن يمنح الحيوان حياة داخل الخطوط. هذا الرسم النادر الذي يحمل عنوان Young Lion Resting (أسد شاب يستريح)، يُعد واحدًا من أهم أعمال رامبرانت وأشدها ندرة، ويشقّ طريقه في فبراير المقبل إلى مزاد سوذبيز في نيويورك بتقدير يراوح بين 15 مليون دولار و20 مليون دولار أمريكي، على أن تُوجَّه عائداته إلى منظمة بانثيرا Panthera المعنية بحماية القطط البرية حول العالم.
الأسد الذي ألهم رامبرانت
في القرن السابع عشر، لم تكن رؤية الأسد في أوروبا أمرًا مألوفًا؛ كان ظهوره نادرًا حدّ الدهشة، أشبه بلقاءٍ مع مخلوقٍ أسطوريّ حي. تلك الندرة كانت كفيلة بإشعال خيال الفنانين الذين سعوا إلى التقاط ما يتجاوز حدود البصر. وفي ما يبدو، وجد رامبرانت ضالّته في إحدى تلك الحدائق الخاصة التي كانت تُدار للنبلاء وهواة الغرائب، إذ التقى هناك بالملك المتوّج لعالم الحيوان.
تكمن جاذبية لوحة "أسد شاب يستريح" في تفاصيلها الدقيقة التي تتجاوز التصوير الظاهري إلى ترجمة الروح الكامنة في المخلوق. يظهر الأسد وقد ربط عنقه بطوقٌ خفيف، ليلتقط رامبرانت، بخطوط الحبر والريشة، لحظة بين السكون والحركة، في توازن دقيق بين القوة والجلال والذكاء اللحظي للنظر الذي لا يلين.
أنجز رامبرانت هذا الرسم في منتصف ثلاثينياته، في مرحلةٍ نضجت فيها لغته الفنية وتكاملت رؤيته الجمالية. كانت سنواته تلك مختبرًا للابتكار، تجاوز فيها حدود البورتريه والتجسيد الواقعي إلى محاولة فهم الجوهر الحيّ للطبيعة.
لم يكن يكتفي أن يرسم ما يراه، بل كان يسعى إلى أن يُظهر كيف تشعر الكائنات، وكيف يتردّد فيها إيقاع الحياة نفسها.
Sotheby’s
رحلة بين أيدي النخبة
ضمن إرثٍ فني يمتدّ عبر قرون، تبرز لوحة الأسد الشاب المستريح بوصفها قطعة استثنائية داخل تاريخ رامبرانت، فهو العمل الوحيد الذي يُجسّد كائنًا حيًا وما زال مملوكًا للقطاع الخاص. بعد أن احتضنته مجموعة لايدن The Leiden Collection لأكثر من عشرين عامًا، تلك المجموعة التي تُعد من أكبر مجموعات الفن الهولندي والفلمنكي للقرن السابع عشر، وتضم سبع عشر لوحة من إبداع رامبرانت، إلى جانب أعمال نادرة لكلٍ من فيرمير وكاريل فابريشيوس لا تزال هي الأخرى بعيدة عن قاعات المتاحف الفاخرة.
رحلة هذا العمل لا تقل سحرًا عن موضوعه؛ فلوحة "أسد شاب يستريح" سطرت فصول تاريخها وهي تحمل بين خطوطها ذاكرة جامعي الفن عبر العصور. فقد انتقلت ملكيتها بين شخصيات مرموقة مثل الفنان والناقد الفرنسي جان جاك دو بواسيو في القرن الثامن عشر، والمؤرخ الفني الطليعي روبرت ليبيل في ستينيات القرن العشرين، لتظل لوحة رامبرانت بمنزلة الجسر الذي يربط بين عبقرية القرن الذهبي الهولندي والذائقة المعاصرة المولعة بالنادر والاستثنائي.
Sotheby’s
وفي عام 2005، انضمت اللوحة إلى مجموعة الدكتور توماس كابلان، مؤسس بانثيرا ومجموعة لايدن ليبدأ فصل جديد في حكايتها. كان كابلان يرى في هذا العمل أكثر من مجرد رسم، إذ وصف شغف رامبرانت بالأسود، قائلاً: "كان قادرًا على أن يمنحها عمقًا إنسانيًا يفوق ما حققه كثير من الفنانين في رسم البشر". لاحقًا، انضمّ جون آيرز، رئيس مجلس إدارة بانثيرا، ليصبح شريكًا في ملكية العمل، متقاسِمًا شغف الحفاظ على إرثٍ يُعيد ربط الفن بروح الطبيعة.
وقبل أن يصل إلى قاعة مزادات سوذبيز في نيويورك خلال أسبوع Masters Week في فبراير، سيطوف العمل عواصم الفن العالمية في رحلة تليق بتاريخه: تبدأ من باريس، التي شهدت عرضه في متحف اللوفر، ثم ينتقل إلى لندن، وأبوظبي، وهونغ كونغ، وصولاً إلى الرياض، في ختام يكرّس رمزيته بوصفه أحد الرسومات الكلاسيكية الأشد ندرة التي شهدها سوق الفنون العالمي في العقود الأخيرة.







