في السنوات الأخيرة، برزت المملكة العربية السعودية بوصفها وجهة تسير قدمًا على درب ترسيخ حضورها على خارطة السياحة العالمية.
وإذا كان إقبال السياح على المملكة من شتى أنحاء العالم يُعزى إلى تنامي المشاريع المتصلة برؤية السعودية 2030، فإن الفضل يرجع أيضًا إلى ما تحتضنه المملكة في الأصل من معاني الثراء الثقافي والتاريخي، ومن جماليات طبيعية آسرة تتجمّل بها المناطق السعودية.
من عسير والطائف والبحر الأحمر إلى الدرعية والعُلا وجدة، نستعرض ست تجارب تجمع بين روح المغامرة وحس الاستكشاف متيحةً تعرّف روائع المملكة من منظور جديد.
العودة إلى أرض البدايات في الدرعية
من واحة الدرعية الرابضة عند أطراف وادي حنيفة نشأت الملامح الأولى للدولة السعودية الحديثة في القرن الثامن عشر.
ومن تلك الواحة التي شكلت عاصمة الدولة الأولى وتحولت إلى مركز حضاري احتل موقع الصدارة على طريق التجارة من شرق الجزيرة إلى غربها، انبثق - ضمن مسار تحقيق رؤية السعودية 2030 - مشروع طموح للحفاظ على إرث الدرعية التاريخي والعمراني والثقافي بموازاة المضي بها قدمًا على طريق المستقبل.
AMMAR
ترتحل بكم الجولات الإرشادية في حي الطريف، المدرج على قائمة اليونسكو للتراث العالمي، إلى ما يشبه متحفًا مفتوحًا لتعرّف ملامح العمارة النجدية.
يكفي أن تزور الدرعية اليوم لتقف شاهدًا على تلاقي التاريخ والحداثة في هذا الفضاء الرحب المتجذّر في أرض بطولات وأمجاد شكلت ملامح الهوية السعودية، والمشرع على آفاق مستقبلية طموحة.
هنا ترتحل بكم الجولات الإرشادية في حي الطريف، المدرج على قائمة اليونسكو للتراث العالمي، إلى ما يشبه متحفًا مفتوحًا لتعرّف ملامح العمارة النجدية التي تتباهى بها زوايا الحي ومواقعه الأثرية، من قصر سلوى إلى بيت المال وسبالة موضي وغيرها، فيما مركز الزوّار يستدرجكم إلى الغوص في بوح تاريخي آسر يعيد إحياء حكاية هجرة بني حنيفة وتأسيس الدرعية ويضيء على برامج تطويرها.
GETTY IMAGES
يعيد مركز الزوّار إحياء حكاية هجرة بني حنيفة وتأسيس الدرعية فيما يضيء على برامج تطويرها.
وفي أعقاب جولات مطوّلة على أروقة معارض العمارة النجدية والتاريخ العسكري والخيل العربي، لا غنى عن استكشاف الامتداد الحديث لحكاية إنسانية عمرها ثلاثة قرون في مطل البجيري حيث تجتمع مجموعة من المطاعم التي تحتفي بمعاني الضيافة الأصيلة، وحيث واحة "الزلال" الثقافية تشكل ملاذًا للانغماس في روح التراث الحي في الدرعية. لا تفوّتوا أيضًا فرصة الاستزادة من التجارب الترفيهية والرياضية في وادي حنيفة، الذي يعد شريان الدرعية وأكبر متنزه في المملكة.
مجموعة من المطاعم تحتفي بمعاني الضيافة الأصيلة في مطل البجيري الذي يشكل امتدادًا حديثًا لحكاية إنسانية عمرها ثلاثة قرون.
الانغماس الآسر في طبيعة عسير
في الجنوب الغربي للمملكة العربية السعودية تقع منطقةٌ قد يُفاجأ مَن يزورها لأول مرة بما تشتمل عليه مِن طبيعة غنّاء ومناخ معتدل وتراث زاخر.
إنها منطقة عسير، حيث تحتشد أعلى جبال المملكة على ارتفاع أكثر من ثلاثة آلاف متر فوق سطح البحر، متجمّلة بخضرة أودية وغابات ومتنزهات تستأنس النفوس بسكينتها ومفاتنها الطبيعية، بداية من متنزه السودة الذي تنطلق منه عربات التلفريك المعلقة إلى صدر العوس في قرية جبال ألمع التاريخية، وليس انتهاء بمتنزه المحتطبة حيث تهدر الشلالات الطبيعية.
Getty Images
تراث معماري أصيل يطبع قرية رجال ألمع التاريخية التي رسّخت مكانتها في الماضي مركزًا للتجارة.
على امتداد العام، يتسنى للوافدين على المنطقة الاستمتاع بمجموعة من التجارب التي لا يطالها النسيان، مثل التخييم في الهواء الطلق وقضاء الليل تحت السماوات المرصعة بالنجوم، أو التجوال الطويل بين المسارات الجبلية التي تزخر بمناظر طبيعية تستثير الانبهار، على ما هو عليه حال المسار المهيب لجبل الصايرة، أو التطواف بالدراجات لاستكشاف جمال القرى وموروثها الملموس.
وإذا كانت هذه التجارب دون مستوى التشويق المنشود عند بعض الزوار، فإن عسير تعد أيضًا بتجارب تتطلب قلبًا جسورًا، مثل المشي المتوازن على الحبال المشدودة والتحليق بالطائرات الدوّارة.
على أن زيارة عسير لا تكتمل من دون الاستزادة من بهاء الطبيعة وعبق التاريخ في مدينة أبها التي ترتاح وسط الضباب، وحيث بيوت قرية المفتاحة قد تحوّلت إلى متاحف خاصة، وجنبات طرقاتها إلى منصات لبيع الرمان والخوخ والعنب والعسل والمأكولات الشعبية.
أنس وسط السُحب التي تعانق جبل السودة في عسير.
تعرّف أسرار الورد في الطائف
تُعد الطائف، عروس المصايف في المملكة، وجهة الباحثين عن التحرر من الأعباء اليومية بين جبال السروات التي تحتضن نفحات التاريخ والثقافة.
هنا، تتسنّى للزوار فرصة الانغماس في سكينة الطبيعة واستكشاف الشلالات المحتجِبة المنحدرة إلى الوديان الوارفة، كما يستطيعون تشرّب الثقافة المحلية في الأسواق الزاخرة بمتاجر الحرف اليدوية والمنسوجات والتوابل.
مع ذلك، يبقى أبرز ما يُميز الطائف عن باقي مناطق المملكة هو مزارع الورد التي يَتضوّع عطرها بين شهري مارس ومايو، خصوصًا خلال انعقاد المهرجان السنوي الذي يتيح للزوار مدخلاً إلى أسرار زراعة الورود وحصادها وسبل تحضير المنتجات المستخلصة من الورود.
تستحق جبال الطائف عناء المغامرة للاستزادة من مفاتن طبيعتها الغارقة في بحر من الضباب.
هذا خصوصًا ما يجتمع في التجربة التي تنظمها شركة ROAM المتخصصة في تنسيق الرحلات والتجارب الفاخرة في المملكة، إذ إنها تقترح برنامجًا يشمل زيارة إلى إحدى مزارع الورد لمعاينة الحصاد في الحقول عن كثب، بكل ما تنطوي عليه هذه العملية من خبرة متوارثة عبر الأجيال، ثم تليها جولة في المصانع حيث يُقطّر الورد ويتحول إلى منتجات تجود بشذاها على الرائحين والقادمين.
يتخلل البرنامج أيضًا رحلات للمشي عبر المسارات الطبيعية التي تخترق الأودية الجبلية، وجولات في متحف الشريف الزاخر بالشواهد على تراث الحجاز أو في شوارع البلد العتيقة التي تعج بصخب أسواق ليلية تقتنون منها تذكارات تتنوّع بين المشغولات الحرفية، والصابون، وماء الورد، وعسل الطائف وغيره.
يمكنكم زيارة إحدى مزارع الورد في الطائف لمعاينة الحصاد في الحقول واستكشاف أسرار تقطير الورد في المصانع.
من الغوص إلى تجديد العافية في وجهة البحر الأحمر
على الساحل الغربي للمملكة العربية السعودية، تمتد مساحات شاسعة تحتضن كنوز الطبيعة وعجائبها الجديرة بالاستكشاف.
هناك، حيث تتوالى أطوار مشروع وجهة البحر الأحمر، يجد ضيوف المملكة طيفًا واسعًا من الملاذات الفاخرة التي تعد بتجارب استجمامية واستكشافية لا مثيل لها.
The Ritz-Carlton
في جزيرة أمهات، يرتاح منتجع نجومه، محمية الريتز-كارلتون متباهيًا بطابع معماري يتخذ شكل الأصداف البحرية.
في جزيرة أمهات على سبيل المثال، يدعو منتجع نجومه، محمية الريتز-كارلتون Nujuma, a Ritz-Carlton Reserve، الذي تنبسط مرافقه عبر مجموعة من الجزر المعزولة، إلى الانغماس في مباهج ترفيهية يندر مثيلها فيما يستزيدون من تفاصيل لوحات طبيعية مبهرة ويسهمون في تعزيز جهود الاستدامة البيئية.
The Ritz-Carlton
يوفّر المنتجع تجارب غوص لاستكشاف التنوع البيئي الكامن في أرخبيل البحر الأحمر.
فتجربة الغوص التي يتيحها هذا المنتجع، والتي يُشرف عليها خبراء مركز "غالاكسيا دايف سنتر" Galaxea Dive Center، تنطوي على رحلات استكشافية تضيء على التنوع البيئي الكامن في أرخبيل البحر الأحمر، حيث تعيش الشعاب المرجانية زاهية الألوان وأجناس عديدة من الكائنات البحرية.
إلى جانب مغامرة الغوص هذه، التي ينال مَن يُكملها شهادة إثبات، يمكن للضيوف الانخراط، من خلال نادي "واما" WAMA في العديد من الأنشطة البحرية مثل ركوب الأمواج والجدف بقوارب الكاياك.
The Ritz-Carlton
حوض السباحة في مركز Galaxea للغوص.
على أن ما تعد به الإقامة في منتجع نجومه يتجاوز حدود الاستجمام إلى تحقيق الرفاه الصحي من خلال برامج العافية في نادي "نيراح" الصحي الذي يستلهم فكرته من تقاليد البدو في اتباع النجوم، إذ يقود الضيوف في رحلاتٍ لإعادة اكتشاف الذات.
يوفّر النادي قائمة متنوعة من العلاجات الحديثة والطقوس التقليدية التي تُستخدم فيها مكوّنات محلية، بما في ذلك نفحات العود، وزيت شجرة البان، كما ينسّق لضيوفه تجارب مخصصة تفصّل على قياس احتياجات كل ضيف لاستعادة التوازن وتحقيق العافية من خلال تقنيات التنفس، والتأمل، واليوغا القمرية والعلاج بالصوت.
The Ritz-Carlton
فرصة لاختبار طقوس الحمام التقليدي في النادي الصحي "نيراح"
السمو بالذائقة الفنية في جدة
لطالما كانت جدة محطة لاستقبال التجار والحجّاج من سائر أقطار العالم، على ما تشهد معالم المدينة التي يعود بعضها إلى القرن السابع الميلادي.
على أن زيارة جدة اليوم تتجاوز حدود استكشاف هذه المعالم التاريخية، لا سيّما في منطقة البلد التي تحتضن متاهة من الأزقة التي يتبيّن الزوار حكاياتها من أفواه المرشدين السياحيين.
GETTY IMAGES
تحتضن منطقة البلد العتيقة متاهة من الأزقة التي يتبيّن الزوار حكاياتها من أفواه المرشدين السياحيين.
فثمة فرصة هنا لإمتاع الذائقة الفنية في مدينة ترسخ حضورها في قلب مشهد متغيّر يعيد تعريف الهوية السعودية من بوّابة الفن والثقافة. يكفي شاهدًا على ذلك ما تزخر به هذه المدينة، التي باتت موطنًا لبينالي الفنون الإسلامية في جدة، من متاحف تاريخية ومعاصرة، ومعارض فنية ومؤسسات ثقافية طليعية.
تواصل صالة "أثر" ريادتها للثورة الثقافية في المملكة، مستعرضة أعمال فنانين سعوديين ودوليين.
في قلب هذا المشهد الفني الحديث، تواصل صالة "أثر"، التي تأسست في جدة عام 2009 على يد رائدي الأعمال محمد حافظ وحمزة صيرفي، ريادتها للثورة الثقافية في المملكة، مستعرضة من موقعها في الدور الخامس ببرج المكاتب في حي الفيصلية أعمال فنانين سعوديين ودوليين، مع تركيز خاص على الأسماء المحلية.
GETTY IMAGES
عمل لخوليو لافوينته بعنوان Accident! (Crazy Speed) (حادث! سرعة جنونية) يزيّن مركز البولفارد على الطريق الساحلي المحاذي للكورنيش.
أما في في منطقة المحمدية شمال جدة، فيبرز مركز حي جميل للفنون بوصفه مجمعًا إبداعيًا عصريًا يمتد على مساحة 17,000 متر مربع، ويحتضن فضاءات متعددة الاستخدامات تشمل معارض فنية بأسلوب المتاحف، وورش عمل وجلسات حوارية، إلى جانب متاجر لبيع المنتجات المحلية في مجالات الفن والتصميم والأزياء.
ولا تكتمل زيارة معالم جدة الفنية من دون استكشاف صالة "حافظ"، التي أسسها في 2015 هاوي جمع الأعمال الفنية قسورة حافظ، والتي تواصل التزامها بمهمة الترويج للفن العربي ودعم الفنانين الناشئين والمتمرسين.
GETTY IMAGES
منحوتة "المكعب" لأرنولدو بومودورو تزيّن المتحف المفتوح للمجسّمات على كورنيش جدة.
على أن لغة الفن في جدة تتجاوز حدود الصالات وجدرانها، على ما تشهد المجسمات الفنية الكبرى التي تتوزّع في أرجاء المدينة، لا سيّما على الكورنيش، وتحمل توقيع نخبة من المبدعين السعودين والعرب والأجانب أمثال مهال الملوح، وعبد الحليم رضوي، وهنري مور، وسيزار بالداشيني وجوان ميرو وألكسندر كالدر.
أما هواة الموسيقا، فلا بدّ لهم من زيارة المتحف الخاص بالموسيقار الراحل طارق عبد الحكيم، والكائن في قلب جدة التارخي.
يستعرض المتحف قطعًا نادرة من مقتنيات الفنان الذي أسهم في تشكيل هوية الأغنية الوطنية السعودية، بما في ذلك آلات موسيقية وملصقات وأزياء ومقاطع فيديو وأرشيف صوتي لأعماله.
يبرز مركز حي جميل للفنون في جدة بوصفه مجمعًا إبداعيًا عصريًا يمتد على مساحة 17,000 متر مربع، ويحتضن فضاءات متعددة الاستخدامات.
استكشاف عجائب الماضي في العُلا
في العهود القديمة، استقطبت مدينة العلا تجار البخور والمسافرين وآوتهم في بقاعها الصحراوية الممتدة.
GETTY IMAGES
مقابر الخريمات التي حفرها الأنباط في الكتل الصخرية على ما تبدو اليوم في موقع الحجر المدرج على قائمة اليونسكو للتراث العالمي.
لكن التحديث الذي طرأ على المنطقة، من المهرجانات والأنشطة الرياضية والثقافية والفنية إلى الفنادق الفاخرة، يكتب فصول حكاية جديدة تستند إلى عجائب تاريخية في مقدمتها موقع الحِجر، الذي يعد أول موقع أثري يُدرج على قائمة التراث العالمي لليونسكو في المملكة.
ALI ALSUHAIBANI
تتيح العُلا تجربة متفردة لتأمل النجوم التي تتوهج ليلاً في سماء منطقة الغراميل.
تنقل الجولات الإرشادية المتاحة في موقع الحجر الزائرين عبر الزمن إلى حقبة سادت فيها الحضارة النبطية، بيد أنه ليس الوجهة الوحيدة التي تصدّت لعاديات الدهر في العُلا، فثمة مدينة دادان، عاصمة مملكتي دادان ولحيان، والتي تحتضن أكثر من عشر مقابر منحوتة بمنتهى البراعة والحرفية في المنحدرات الصخرية الحمراء.
BIDDULPH
تشرع العُلا فضاءاتها للمغامرين متيحة لهم أنشطة متنوعة مثل تسلق الصخور والانزلاق عبر الحبال المعلقة بين الجبال.
تُضاف هذه المقابر، التي جذب اكتشافها اهتمام خبراء الآثار من سائر أنحاء العالم، إلى كنوز الحكايات المدفونة في ثنايا جبل عِكمة والمحفورة بأنامل الرحالة الذين توافدوا على العلا عبر القرون.
وللاستزادة من عبق التاريخ، نوصي بزيارة بلدة العلا القديمة التي ما فتئت تحتضن مئات البيوت المبنية بالطوب الطيني وتصخب اليوم بحيوية المتاجر التراثية في سوق وادي القرى.
The Chedi Hegra
إقامة متفردة يعد بها فندق شيدي الحِجر المستحدث في موقع سكة حديد الحجاز القديمة.
وعلى هامش استكشاف حكايات الماضي، تشرع العلا فضاءاتها للمغامرين متيحة لهم تجارب متنوّعة تشمل الانزلاق بسرعة 100 كيلومتر في الساعة عبر الحبال المعلقة في سماء جبل الحرّة، والرحلات على متن المناطيد، فضلاً عن تأمل النجوم ليلاً في منطقة الغراميل، وتجارب مخصصة للرفاه الصحي.
أما تجربة الإقامة التي نوصي بها، فمسرحها فندق شيدي الحجر The Chedi Hegra الذي افتُتح مطلع هذا العام في مدينة الحِجر الأثرية وتحديدًا في موقع سكة حديد الحجاز القديمة.