في لحظة فارقة تُخلَّد في ذاكرة الإرث الإنساني، انضمت منطقة الفاية الأثرية في قلب صحراء الشارقة إلى قائمة التراث العالمي لليونسكو، لتُسطّر بذلك إنجازًا إماراتيًا جديدًا على خريطة الحضارات.
ليست الفاية مجرد موقع أثري، بل شهادة حية على عبقرية الإنسان الأول في مواجهة الطبيعة القاسية، وعلى استمرارية الوجود البشري في واحدة من البيئات الأشد قسوة على وجه الأرض.
وجاء هذا الاعتراف الأممي خلال الدورة السابعة والأربعين للجنة التراث العالمي التابعة لليونسكو في باريس، حيث أجمعت الدول الأعضاء على القيمة العالمية الاستثنائية لهذا الموقع الفريد. ففي مدينة ارتبط اسمها بالفكر والجمال والرمزية الثقافية، تلاقت أصوات العالم لتُقرّ بأن صحراء الشارقة تحتضن إرثًا إنسانيًا يتجاوز الحدود.
من أعماق الرمال إلى مصاف العالمية، تبوأت الفاية مكانتها المستحقة بوصفها أول موقع من العصر الحجري القديم في منطقة صحراوية يُدرج ضمن قائمة التراث العالمي، وواحد من المواقع الأشد ندرة التي توثق فصولاً غير مكتشفة من تاريخ البشرية في شبه الجزيرة العربية.
هذا الإنجاز ليس مجرد إدراج لموقع أثري، بل تجسيد لرؤية ثقافية عميقة تقودها دولة الإمارات التي جعلت من صون التراث والبحث العلمي مرتكزين أساسيين في مشروع حضاري مستدام.
Unesco
وقد أُدرج موقع الفاية ضمن فئة المناظر الثقافية، ليصبح الموقع العربي الوحيد الذي أُضيف إلى القائمة هذا العام، والموقع الثاني من دولة الإمارات بعد تسجيل مواقع العين الثقافية في عام 2011.
تقع الفاية في المنطقة الوسطى من إمارة الشارقة، وتحتضن أحد أطول السجلات المتواصلة لوجود الإنسان في البيئات الصحراوية، إذ يعود تاريخه إلى أكثر من 200 ألف عام.
على مدى أكثر من ثلاثة عقود، قادت هيئة الشارقة للآثار جهودًا أثرية دقيقة في الموقع، بالتعاون مع مؤسسات أكاديمية مرموقة مثل جامعة توبنغن الألمانية وجامعة أكسفورد بروكس البريطانية، أسفرت عن الكشف عن 18 طبقة أثرية متعاقبة، توثق فترات زمنية مختلفة من النشاط البشري في بيئة قاسية شديدة الجفاف، ما منح الموقع قيمة علمية استثنائية في رسم مسار تطور الإنسان عبر العصور.
وقد أعربت الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي، السفيرة الرسمية لملف الترشيح، عن شكرها العميق لرئيس لجنة التراث العالمي وأعضائها الموقّرين على هذا الاعتراف التاريخي. وقالت في كلمتها: "نحن ملتزمون التزامًا راسخًا بحماية هذا الموقع وتكريم إرث من سبقونا، ليظل مصدر إلهام للأجيال في مختلف أنحاء العالم".
وأكد عيسى يوسف، المدير العام لهيئة الشارقة للآثار، أن هذا الإنجاز يُجسّد مفهوم الملكية المشتركة للتراث الإنساني، قائلاً: "الفاية باتت اليوم ملكًا لشعوب العالم كلها، تمامًا كما كانت قبل أكثر من 200 ألف عام".
كما أوضح أن الشارقة تقدمت رسميًا بملف الترشيح في فبراير 2024، بعد 12 عامًا من التحضير المستمر. وقد خضع الموقع لتقييم صارم من قِبل اليونسكو وفق معاييرها الدقيقة التي لا تقبل إلا بالمواقع ذات القيمة العالمية الفريدة والتأثير طويل الأمد.
ولتأمين استدامة هذا الإرث، اعتمدت دولة الإمارات وإمارة الشارقة خطة حماية وإدارة شاملة تمتد بين عامي 2024 و2030، تُركّز على دعم البحث العلمي، وتعزيز التعليم، وتطوير السياحة الثقافية المستدامة، بما يتماشى مع معايير اليونسكو لحماية القيمة العالمية الاستثنائية للموقع.
ويُعد موقع الفاية أيضًا أحد المواقع الرئيسة ضمن برنامج اليونسكو HEADS المعني بتتبع تطور الإنسان وتكيفه وهجراته وتطوراته الاجتماعية، إلى جانب مواقع مرموقة عالميًا مثل كهوف كلاسيس ريفر وووندرورك في جنوب إفريقيا.
وبهذا الإنجاز، ترتفع قائمة التراث العالمي إلى 1248 موقعًا موزعة على 170 دولة، تشمل 972 موقعًا ثقافيًا، و235 موقعًا طبيعيًا، و41 موقعًا مختلطًا. أما في العالم العربي، فتحتضن 18 دولة ما مجموعه 96 موقعًا مدرجًا على القائمة.
وقد شهد عام 2025 إدراج 26 موقعًا جديدًا، منها 21 موقعًا ثقافيًا، و4 مواقع طبيعية، وموقع مختلط واحد، ومن أبرزها: شبكة الحصون العسكرية للماراثا في الهند، وقصور حضارة المينوية في جزيرة كريت باليونان، ومواقع ما قبل التاريخ في إيران، إلى جانب منقوشات حجرية عملاقة تعود للعصر النيوليتي في فرنسا.