لم يمض على ظهور تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي بشكلها الذي نعهده اليوم إلا وقت قليل مقارنةً بالتقنيات الأخرى، ولكنه كان كافيًا لقلب موازين العالم وترك أثر واضح على مختلف القطاعات في العالم بما فيها وول ستريت وقطاع الأعمال. 

ورغم أن تأثر وول ستريت بتقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدية تأخر قليلاً عن بقية المجالات والوظائف الأخرى، إلا أنه تسبب في تغيير كبير لهذا العالم جعله يتبنى التقنية الناشئة بشكل سريع، وذلك عبر تطويع قدراتها لتناسبه. 

بدأت موجة تبنٍ واسعة من البنوك وتوسعت حتى شركات الاستثمار مثل جي بي مورجان و MAN Group وغيرها من الشركات. كما أن المؤشرات تؤكد أن هذه الموجة في بدايتها فحسب ولن تشهد انحسارًا قريبًا مع زيادة الطلب على خبراء الذكاء الاصطناعي في قطاع البنوك وكبرى شركات الاستثمار وإدارة الأصول. 

فرصة ذهبية أمام البنوك 

أشار تقرير نشرته بلومبرغ إلى وجود أكثر من 17 خبيرًا في الذكاء الاصطناعي ضمن المجالس التنفيذية في أكبر بنوك وول ستريت، وهو ما أكده تصريح جيمي ديمون المدير التنفيذي لشركة جي بي مورجان الذي يرى أن الذكاء الاصطناعي يتيح فرصة أمام البنوك لمواجهة طوفان شركات التقنية المالية الناشئة والتي انتشرت في كثير من الدول حول العالم. 

امتدت الرغبة في استخدام الذكاء الاصطناعي في العمليات المالية اليومية أيضًا إلى بنك غولدمان ساكس الذي أكد مدير الاستثمار والتعلم الآلي فيه على أهمية استخدام الذكاء الاصطناعي، وتحديدًا شات جي بي تي. وقد وضع البنك خطة ترتكز إلى 3 محاور رئيسة لتسهيل استخدام التقنية لمن لا يمتلك الخبرة الكافية في عالم الذكاء الاصطناعي

تبدأ المحاور التي ينوي غولدمان ساكس استخدام الذكاء الاصطناعي فيها من المستندات القانونية والمالية الكثيرة التي يمتلكها، إذ ينوي استخدام الذكاء الاصطناعي لقراءتها وتلخيصها بشكل يتيح الوصول للمعلومات الرئيسة بسهولة من قبل موظفي البنك من البشر أو حتى إدخالها في المنظومة الإلكترونية داخل البنك، وهو ما يتيح الوصول إليها بشكل أسرع لاحقًا. 

ثم تنتقل الخطة إلى المرحلة التالية، وهي متعلقة بإدارة النظام الإلكتروني والمالي للبنك  والذي كان يحتاج إلى 12 ألف مهندس من أجل إدارته وتنظيمه والمحافظة عليه. فقد كان جزء كبير من مهمة هؤلاء المهندسين يقتضي كتابة المستندات التقنية وتفسيرها للعاملين في البنك ضمن القطاعات الأخرى. ولكن الذكاء الاصطناعي التوليدي قادر على التعامل مع المستندات التقنية بشكل أفضل من المهندسين البشر، وهو ما يقصر مدة الصيانة وإدارة النظام. 

أخيرًا تأتي المرحلة الثالثة من الخطة، وهي إتاحة الخبرة البرمجية والاستفادة من قدرات الأتمتة الواسعة التي يمتلكها الذكاء الاصطناعي من دون الحاجة إلى خبراء تقنيين، وتحديدًا عبر استخدام الموظفين الماليين والإداريين داخل البنك، وذلك من أجل توفير الوقت والجهد الذي يُهدر في المهام التي لا تحتاج إلى عامل بشري واضح. وبالطبع دور الذكاء الاصطناعي هنا يمتد إلى تحويل الأوامر الكتابية والأفكار غير البرمجية إلى سطور برمجية يمكن للنظام التعامل معها وإدارتها بسهولة. 

على أن موجة تسخير الذكاء الاصطناعي لم تقتصر على بنوك وول ستريت، بل امتدت إلى البنوك الخارجية أيضًا، وفي مقدمتها Deutsche الألماني الذي جمع أكثر من 300 موظف في قطاع الذكاء الاصطناعي ضمن مختلف المستويات الوظيفية أملاً في تغيير نظام البنك بالكامل وتهيئته لاستقبال العصر الجديد.

تمويل مقدم من الذكاء الاصطناعي 

تحاول البنوك الوصول إلى طريقة من أجل الاستفادة من قدرات الذكاء الاصطناعي. ولكن كبرى شركات التمويل والاستثمار العالمي تمتلك رؤية واضحة من أجل تسخير هذه التقنية بشكل كبير حتى تسهل عملية منح التمويلات المختلفة وتقييم العملاء القادمين إليها. 

ينوي صندوق Bridgewater تقديم تمويل يعتمد بالكامل على الذكاء الاصطناعي بحلول يوليو المقبل، وهذا يعني أن الذكاء الاصطناعي سيكون مسؤولًا عن مختلف المراحل والخطوات التي كان الموظفين البشر يقومون بها من أجل منح التمويل. وهذا ما تسعى إليه مجموعة MAN أيضًا التي تعد صندوق الاستثمار الأكبر في العالم مع محفظة تصل إلى 161.2 مليار دولار تقريبًا. ولكن بدلاً من إبقاء الذكاء الاصطناعي تحت مظلة الشركة الأم، أطلقت المجموعة شركة فرعية جديدة في أكتوبر لتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي المالية. 

بالطبع هذه الجهود تمتد إلى كثير من صناديق الاستثمار العالمية حتى خارج وول ستريت كحال البنوك الدولية، وقد يكون مشروع الذكاء الاصطناعي الخاص بصندوق الاستثمار السويدي EQT الأهم بينهم، كونه تحول إلى محرك بحث يعتمد على شات جي بي تي ويتيح للمستثمرين التعرف على المشاريع الناجحة التي يمكن الاستثمار فيها. وينبغي ألا ننسى جهود مجموعة AllianceBernstein التي تسعى لبناء فريق مخصص يركز على الذكاء الاصطناعي منذ 2017 إلى جانب صندوق AB الذي بدأ بتدريب موظفيه على استخدام الذكاء الاصطناعي لإدارة الأصول بشكل أفضل. 

ولكن يظل السؤال الرئيس حول هذه التقنيات، هل ينجح الذكاء الاصطناعي في عالم المال، خصوصًا أن هذا العالم له متطلبات خاصة مختلفة وفريدة عن بقية القطاعات، كما أنه من القطاعات التي لا تحتمل الأخطاء على الإطلاق، إذ إن خطأ واحدًا قد يحول المستثمر إلى أحد أغنى رجال العالم أو يدمر ثروته بالكامل؟