عُرفت باريس لقرون بأنها عاصمة الفن الأولى في العالم، ووجهة كل باحث عن الجمال والابتكار الفني. فإلى جانب متحف اللوفر الشهير الذي يحتضن روائع خالدة مثل الموناليزا وأجنحة العصور الكلاسيكية، برز مركز بومبيدو بوصفه رمزًا للفن الحديث والمعاصر بعماراته الجريئة ومجموعاته الاستثنائية، قبل أن يُغلق أبوابه في سبتمبر 2025 لبدء عملية تجديد كبرى تمتد لخمس سنوات كاملة.
ومع ذلك، فإن المشهد الفني الباريسي لا يقتصر على هذين الصرحين العالميين، بل يزخر بفضاءات مبتكرة وتجارب حسية تُعيد تعريف العلاقة بين الجمهور والفن.
هنا تتعدد الملامح من قاعات رقمية غامرة إلى معارض معاصرة جريئة، ومن مؤسسات تتبنى الحوار الثقافي العالمي إلى متاحف تحتضن ذاكرة القرن العشرين. وهكذا، تنطلق رحلة الفن في باريس عبر 5 محطات متنوّعة، تُقدّم لكل زائر فرصة لاكتشاف وجه جديد من وجوه العاصمة الفنية.
محترَف أتولييه دي لوميير.. الفن الغامر في قلب باريس
يُعد محترَف أتولييه دي لوميير L’Atelier des Lumières من التجارب الفنية الأكثر تميّزًا في باريس، حيث يتحول الزائر من مجرد متفرّج إلى عنصر فاعل داخل العمل الفني نفسه.
فما إن يطأ القاعة حتى يجد نفسه محاطًا بروائع كبار الفنانين تزين الجدران والأرضيات والأسقف عبر أكثر من 140 جهاز عرض فيديو عالي الدقة. ويرافق هذه التجربة عرض صوتي يغمر القاعة من مختلف الجهات، فيصير الفن إحساسًا متعدد الأبعاد يُختبر بالسمع والبصر والحركة.
تاريخ المكان لا يقل تفردًا عما يعرض بداخله؛ فقد تأسس المبنى عام 1835 بوصفه مسبكًا للحديد الصناعي، ثم أُعيد إحياؤه عام 2018 ليصبح مركزًا للفن الرقمي، جامعًا بين التاريخ والصناعة والتكنولوجيا الحديثة.
ومنذ إعادة افتتاحه، استضاف المحترَف معارض استثنائية شكّلت علامات فارقة في المشهد الباريسي، من العوالم المضيئة لفان جوخ التي اجتذبت مئات الآلاف من الزوّار، إلى تجربة "الأمير الصغير" المستوحاة من رواية أنطوان دو سانت إكزوبيري التي خاطبت خيال الكبار والصغار على حد سواء. وهكذا أصبح المحترَف مقصدًا لعشاق الفن الرقمي والباحثين عن مغامرات بصرية جديدة تُعيد تعريف علاقتهم بالفن.
Le Petit Prince.Atelier-Lumieres
معرض سوزان تاراسيف.. احتفاء بالفن المعاصر والوجوه الجديدة
منذ تأسيسه عام 2011 في قلب حي لو ماريه الباريسي العريق، استطاع معرض سوزان تاراسيف Suzanne Tarasiève أن يرسّخ مكانته بوصفه من الوجهات العالمية الأبرز للفن المعاصر.
وبرغم رحيل مؤسسته عام 2022، إلا أن المعرض لا يزال وفيًا لرؤيتها التي جمعت بين دعم الأسماء الراسخة في عالم الفن وإعطاء مساحة للمواهب الشابة.
على جدرانه تتجاور أعمال فنانين عالميين بارزين مثل بوريس ميخايلوف، ويورغن تيلر، ويورغن كلاوكي، لتمنح الزائر تجربة بصرية وفكرية تتجاوز حدود المألوف وتفتح آفاقًا غير متوقعة للتلقي الفني.
ولا يكتفي المعرض بأن يكون مساحة عرض تقليدية، بل يقدّم نفسه بوصفه حقلًا تجريبيًا متجددًا، لا يخضع لنمط محدد ولا يقيّد نفسه بمدرسة واحدة، بل يحتفي بتنوع الأساليب والتقنيات، ليعكس بذلك ثراء المشهد الفني العالمي وتحوّلاته المستمرة.
تمتد هذه الحيوية إلى طابعه اليومي، إذ يفتح أبوابه للجمهور خمسة أيام في الأسبوع، بين الساعة الحادية عشرة صباحًا والسابعة مساءً، ما يمنحه طابعًا حيويًا مستمرًا.
Suzanne-Tarasieve
متحف كيه برانلي.. الفن خارج أوروبا
يذهب متحف كيه برانلي Musée du Quai Branly، الذي أُسس بفضل مبادرة الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، أبعد من حدود الفن الأوروبي ليمنح زائريه تجربة استثنائية في استكشاف تنوّع الثقافات الإنسانية عبر العالم، من إفريقيا وآسيا إلى أوقيانوسيا والأمريكيتين.
يحتضن المتحف مجموعة دائمة مذهلة تتجاوز 300 ألف عمل فني و700 ألف صورة فوتوغرافية، إلى جانب 10 آلاف آلة موسيقية و25 ألف زيّ تقليدي، ما يجعله منصة متفردة لرواية قصص الشعوب الأصلية وإبراز إبداعاتها المتوارثة عبر الأجيال.
ولا تتوقف التجربة عند هذه الكنوز الدائمة؛ إذ يقدّم المتحف معارض مؤقتة تتجدد كل ستة أشهر تقريبًا، لتبقى الزيارة دائمًا مختلفة وغنية بالاكتشافات الجديدة.
وإلى جانب المحتوى الثقافي الغني، يسهم تصميم المتحف المعماري في إثراء التجربة البصرية والشعورية للزوار. فالمبنى نفسه، بما يحمله من تفاصيل معمارية مبدعة، يعكس تنوّع الثقافات التي يحتفي بها.
من أبرز هذه العناصر "الجدار الأخضر" الذي يكسو واجهته بغطاء نباتي آتٍ من مختلف بقاع الأرض، ما يخلق حوارًا بصريًا بين الفن والطبيعة ويجسد فلسفة المتحف في احترام التنوع الثقافي والبيئي.
Musée du Quai Branly
مؤسسة لويس فويتون.. العمارة والفن في حوار حي
تُقدّم مؤسسة لويس فويتون تجربة فنية مختلفة تنطلق من المبنى نفسه قبل التوجه لمعروضاته. فقد تولّى تصميمه المهندس العالمي فرانك جيري، المعروف بأعماله الشهيرة مثل متحف غوغنهايم بلباو وقاعة والت ديزني للموسيقى.
جاء المبنى مثل تحفة هندسية تُشبه سفينة زجاجية عملاقة تُبحر في قلب المدينة، بتصميم جريء لا يكتفي بإبهار الزائر من الخارج، بل يهيّئه لرحلة استكشافية داخلية تمتزج فيها العمارة بالفن.
في الداخل، تتوزع المعروضات الفنية المعاصرة على أربعة محاور رئيسة: التأمل، وفن البوب، والموسيقا والصوت، والأسلوب التعبيري. كل محور يقدّم تجربة حسّية وبصرية مختلفة، تجعل الزائر يتنقّل بين العوالم الفنية بفضول وانبهار.
ولا تكتفي المؤسسة بعرض الأعمال، بل تُفعّل دورها الثقافي من خلال سلسلة مناسبات وندوات ولقاءات فكرية، يشارك فيها فنانون معاصرون ومبدعون من مختلف أنحاء العالم، لتتحوّل إلى مساحة حوار حيّة بين الجمهور والمشهد الفني العالمي.
ولأن المؤسسة تُواكب روح الفن المتجددة، تتغيّر المعارض باستمرار، ما يجعل كل زيارة فرصة جديدة لاستكشاف مفاهيم واتجاهات فنية مختلفة.
Fondation Louis Vuitton
متحف الفن الحديث في باريس.. ذاكرة القرن العشرين
على بُعد خطوات من برج إيفل وشارع الشانزليزيه، وبين ظلال التاريخ وحداثة المدينة، يقف متحف الفن الحديث في باريس بوصفه علامة فارقة في المشهد الفني الفرنسي.
يعود المبنى إلى حقبة الثلاثينيات، لكنه لا يزال حتى اليوم ينبض بروح التجديد والتجريب، محتضنًا ثاني أكبر مجموعة للفن الحديث في المدينة.
داخل القاعات الرحبة، تنتظم الأعمال الفنية كأنها محطات في خط زمني متسلسل، تبدأ مع مطلع القرن العشرين وتمتد حتى تجليات الفن المعاصر.
هناك، تتآلف إبداعات بيكاسو، وراؤول ديفي، وأميديو موديلياني، ومارك شاجال في مشهد فني واحد، لتنسج خطابًا بصريًا متنوع الطبقات يعيد تعريف علاقة الزائر بمسيرة الفن الحديث.
Musée d’Art Moderne de Paris
وتبرز من بين تلك الأعمال لوحة La Fée Électricité (جنية الكهرباء) الشهيرة لديفي، بفيضها اللوني وانسيابها الخيالي، ونسختا La Danse (الرقصة) لهنري ماتيس، اللتان تختصران بلغة اللون والحركة فلسفة كاملة حول الجمال، والحرية، والحياة.
أما المعارض المؤقتة، فهي امتداد طبيعي لروح المتحف، إذ تفتح آفاقًا جديدة لاكتشاف الاتجاهات الراهنة في الفن، وتتيح فرصًا للقاء بين الماضي والحاضر، بين التيارات الراسخة والتجارب الطليعية.