على مدى عقود، جمع رجل الأعمال الأمريكي الراحل ماثيو باكسباوم وزوجته كارولين كاي باكسباوم واحدة من المجموعات الفنية الخاصة الأبرز في الولايات المتحدة، امتزج فيها شغفهما بالجمال مع التزامهما بدعم المؤسسات الثقافية والطبية. وفي هذا الخريف، تُطرح عشرة أعمال فنية من مقتنياتهما في مزادات سوذبيز بمدينة نيويورك خلال 20 نوفمبر المقبل، ويُتوقع أن تحقق المجموعة مجتمعة ما يصل إلى 24 مليون دولار أمريكي.

رحلة فنية عبر مدارس القرن العشرين

تفتتح دار سوذبيز مزاداتها الخريفية في نيويورك بلوحة Kopf (رأس) التي أبدعها الفنان بول كلي عام 1919، وتُقدّر قيمتها بنحو 500 ألف دولار أمريكي. تنتمي هذه اللوحة إلى المرحلة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، وهي فترة مفصلية في مسيرة كلي الفنية، إذ إنه بدأ خلالها في استكشاف البورتريه الذاتي بأسلوب بصري فريد.

مزاد سوذبيز الخريفي في نيويورك يعرض مقتنيات فنية نادرة من مجموعة باكسباوم

Sotheby’s

كلي، الذي يُعد من رموز الفن الحديث في القرن العشرين، اشتهر بابتكاره لغة تشكيلية خاصة تمزج بين التجريد، ونظريات الألوان، والرمزية المستوحاة من رسوم الأطفال. وقد تأثر في تلك المرحلة بالتحولات النفسية التي أعقبت الحرب، فانعكست في أعماله عبر وجوه مشحونة بالدلالات، مرسومة بخطوط دقيقة وألوان متقشفة لكنها عميقة التأثير.

ثم تُكمل الدار عرضها الفني بمجموعة من أعمال الفنان الإسباني خوان ميرو، الذي يُعد أحد أبرز روّاد الفن التجريدي في القرن العشرين. وتضم المجموعة لوحتين نادرتين تعكسان تنوّع أساليبه وتعمّقه في الرمزية البصرية.

اللوحة الأولى تحمل عنوان Personnages et oiseau devant le soleil (شخصيات وطائر أمام الشمس)، وتعود إلى عام 1939، وهي مرسومة على قطعة خشنة تمنحها طابعًا خامًا ومباشرًا، وتضفي على تكوينها حسًّا بدائيًا يتماشى مع فلسفة ميرو في تبسيط الشكل وتكثيف المعنى. تُقدّر قيمة هذه اللوحة بنحو 600 ألف دولار أمريكي، وهي واحدة من الأعمال التي تسبق مرحلة انفجار الألوان في مسيرته، إذ تتسم بتركيبة لونية متقشفة لكنها مشحونة بالدلالات.

مزاد سوذبيز الخريفي في نيويورك يعرض مقتنيات فنية نادرة من مجموعة باكسباوم

Sotheby’s

أما اللوحة الثانية، Femmes, oiseau, étoiles (نساء، طائر، نجوم)، فتعود إلى عام 1942، وتُقدّر قيمتها بنحو 1.8 مليون دولار أمريكي، وهي عمل يُجسّد عالم ميرو الرمزي بكل ما فيه من طيور وأجرام سماوية وشخصيات حالمة، مرسومة بأسلوبه المميز الذي يمزج بين الخطوط الحرة والألوان الزاهية. وتُعبّر هذه اللوحة عن رؤيته الكونية التي تتجاوز الواقع، وتغوص في عوالم خيالية تستلهم الطبيعة واللاوعي.

مزاد سوذبيز الخريفي في نيويورك يعرض مقتنيات فنية نادرة من مجموعة باكسباوم

Sotheby’s

ومن فرنسا تأتي لوحة Restaurant Rougeot II (مطعم روجو الثاني) للفنان جان دوبوفيه، والتي أنجزها عام 1961، والمقدّرة قيمتها بنحو 8 ملايين دولار أمريكي. تنتمي اللوحة إلى سلسلة سيرك باريس الشهيرة التي جسّدت رؤية دوبوفيه للحياة اليومية في المدينة، وتُظهر مطعمًا باريسيًا صاخبًا يعج بالحركة والأحاديث. وقد اقتنى الزوجان باكسباوم هذه القطعة في ثمانينيات القرن الماضي من تاجر الأعمال الفنية ريتشارد فيغن، في خطوةٍ تعكس حسهما الاستشرافي، إذ سبقا ازدهار سوق أعمال دوبوفيه بسنوات.

مزاد سوذبيز الخريفي في نيويورك يعرض مقتنيات فنية نادرة من مجموعة باكسباوم

Sotheby’s

يبرز بين المجموعة أيضًا عمل للفنان السريالي الإسباني الشهير سلفادور دالي بعنوان Personnage aux tiroirs (شخصية ذات أدراج)، أنجزه بين عامي 1934 و1938 وتُقدَّر قيمته بنحو مليون دولار أمريكي. يُجسّد دالي في هذه اللوحة إحدى أشهر أفكاره الرمزية، إذ يصوّر شخصية بشرية تتخللها أدراج مفتوحة، في استعارة بصرية تُحاكي نظريات سيغموند فرويد حول أعماق اللاوعي الإنساني.

مزاد سوذبيز الخريفي في نيويورك يعرض مقتنيات فنية نادرة من مجموعة باكسباوم

Sotheby’s

كان هذا العمل جزءًا من شاشة زخرفية مكوّنة من أربع لوحات طلبتها سيسيل إلوار، ابنة غالا زوجة دالي، وتُعدّ هذه القطعة الوحيدة من السلسلة التي ظهرت في مزاد علني خلال العقود الثلاثة الماضية.

لوحة ماغريت تتصدّر المزاد

في ذروة المجموعة المعروضة، تتألّق لوحة Le Jockey perdu (الفارس الضائع) التي أبدعها الفنان البلجيكي رينيه ماغريت عام 1942، بوصفها القطعة الأعلى تقديرًا في المزاد، بقيمة تصل إلى 12 مليون دولار. هذا العمل النادر يُجسّد جوهر السريالية الأوروبية في أبهى صورها، ويُعد من مقتنيات الزوجين ماثيو وكارولين باكسباوم الأبرز.

تُصوّر اللوحة فارسًا يمتطي حصانًا أسود في مشهد غامض تتخلله أعمدة بيضاء تتفرّع منها أغصان كأنها أشجار سماوية، في تركيبة بصرية تحض على التأمل وتُجسّد فلسفة ماغريت في زعزعة الواقع وإعادة تشكيله عبر رموز غير مألوفة.

مزاد سوذبيز الخريفي في نيويورك يعرض مقتنيات فنية نادرة من مجموعة باكسباوم

Sotheby’s

ولم يكن اقتناء لوحة (الفارس الضائع) وليد المصادفة، بل جاء تتويجًا لرحلة بحث امتدت لعقد من الزمن، بدأها الزوجان ماثيو وكارولين باكسباوم بعد زيارتهما لمعرض شامل لأعمال ماغريت في معهد الفنون في شيكاغو عام 1960. تلك اللحظة كانت نقطة تحول في علاقتهما بالفن السريالي، إذ أثارت في داخلهما رغبة ملحّة في اقتناء عمل يُجسّد رؤيتهما الجمالية الخاصة.

لكن السوق الفنية آنذاك كانت تمر بمرحلة ركود، ولم يكن ماغريت قد بلغ بعد مكانته السوقية الراهنة، ما جعل العثور على عمل يرقى إلى تطلعاتهما أمرًا بالغ الصعوبة. وفي تسعينيات القرن الماضي، ظهرت هذه اللوحة النادرة التي كانت ضمن مجموعة الفنان ويليام كوبلي، أحد جامعي الفن السريالي الأشهر في ذلك الوقت، لتُشكّل لحظة التقاء بين الذائقة الشخصية والتاريخ الفني.